فنجد صورة الزمن السيئ (أيام السوء) تتحول إلى "خرائب أيام السوء"، ويتوازى في هذا السياق الحلاج والبومة. وطبيعي أن صورة جزئية لا تفصح عن هوية المسرحية، لكننا نود أن نعرض ملمحا، فكرة جزئية ترتبط بالمكان. ويلاحظ أن الجملة الشعرية السابقة قيلت في السجن.
وفى ليلى والمجنون يشكل الزمن أخطر قضية عند شخصيات: "الشاعر" لأنه في حالة الانتظار لزمن تتحول فيه الحياة إلى الأفضل، ونجد وصف "الأستاذ" للزمن يحوله إلى مكان أيضا:
"الأستاذ: أسد لا يحمل سيفا،
بل يحمل بوقا يصرخ في صحراء الزمن اليابس".
(717/2)
وفى الأميرة تنتظر، وهى تنتظر أيضا كشخصيات ليلى والمجنون، يتحول الزمان إلى حقائب، أو بيت:
"وصيفة 2: خمسة عشر خريفا مذ فارقنا قصر الورد
وصيفة ا: خمسة عشر خريفا مذ حملتنا في العربة
من بين حقائب ماضيها ".
(356/2)
وعلى لسان الأميرة، يتحول الزمن (الماضي/ الميت) إلى بيت، تقول للسمندل:
"هل تكسر باب الزمن الميت
وتبلل أحزاني بالحلوى والقبلات
هل ستعيد إلى الطفلة؟"
(424/2)
وفى مسافر ليل، يتحول الزمن إلى مطلق، والراكب:
"يسقط من عينيه أيامه
تتبدد دوامات فوق حديد الأرضية
لا تتكسر قطعا وشظايا
إذ ليس هنالك شئ صلب".
(619/2)
ونلاحظ أن المطلق والمجرد يصلان إلى زمان الراكب، لذلك تتجمع كل أيام الزمن وتسقط وهو ينظر إلى أوراق الماضي. لذلك يصور الشاعر بدوامات متبددة فوق حديد الأرضية، ليست صلبة، الأمر الذي يجعل هدف الصورة بيان ميوعة هذه الأيام وعدم جدواها لصاحبها.
وفى بعد أن يموت الملك، على لسان الملكة، يتم تصوير الزمن بواسطة المكان. والملكة تكرر صورة الزمن ذي الباب، وهى الصورة التي أوردناها سابقا. تقول:
"الويل لمن يوقظ هذا الطير النائم*
سيكسر "باب الزمن الموصود" ويحطم أقفاله
حتى تخرج من "سرداب الماضي" قطع الظلمات المختالة".
(32513)
ونلاحظ أن الصورة (باب الزمن) تكبر هذه المرة وتنمو وتمتد، وفى لحظة يكون الزمن هو التحدي الوحيد في المسرحية.
وبالصورة الشعرية: الزمكانية يكتمل دور المكان في تشكيل النص عند عبد الصبور، خاصة، وقضية الزمن قضية جوهرية في كل مسرحياته، وتحولت أيضا على يديه، وعلى لسان شخصياته، إلى مكان، أو حس مادي مكاني.
وعلى الرغم من تعدد مسرحيات صلاح عبد الصبور الخمس، من حيث الموضوعات المعالجة، والشخصيات، بل الأجواء الدرامية التي يستخدمها داخل نصوصه، أقول إنه على الرغم من ذلك، فإن مسرح صلاح عبد الصبور يبدو ضيقا، ترتد عناصره المكانية إلى حيز ضيق.
أعنى أن مسرحياته تتحرك حول ما عرضناه على المستوى المكاني، ثنائية البيت والسجن، ثم الاتساع في المكان. وقد لاحظا أن البيت قد يتحول إلى قصر أو كوخ بسيط، أو منزل شعبي أو مقر جريدة؟ لكنه يظل محتفظا بدلالة الألفة والنشأة. وعلى النقيض يتحول السجن ولوازمه (المحكمة) إلى الضيق من المكان، ويترادف في غالبية السياقات مع "الظلم" و "القهر". وأيضا يقف الاتساع في المكان وسيطاً بين ثنائية الألفة والخوف (البيت 2 السجن) يحل مشكلة الضيق المكاني.
ومن هنا نستطع القول إن مسرح صلاح عبد الصبور يتحرك خلال عناصر مكانية محدودة، وثيمات مكانية ثابتة، وإن كانت تتعدد، فهي تتعدد في تجليات مختلفة، لا يتغير جوهرها، بل يظل الجوهر ثابتا، ويتحرك العرض، الشكلي؟ الأمر الذي يلقى سؤالا حول المكان في مسرح صلاح عبد الصبور، هل هو فقير في عناصره ومكوناته، وهل يترتب على ذلك القول بضيق ومحدودية عناصر الرؤية الجمالية للواقع عند عبد الصبور؟ خاصة وأن مسرحياته ترتد دائما للوراء حيث نجد الكوخ، والقصر، * "والطير النائم" هو الملك الميت/ الماضي الميت.
والسجن، والبيت، ومخدع النوم، ومحل العمل، وكلها مفردات كثيرا ما شكلت مسرحيات كثيرة قبله، وليس ببعيد، مسرح أحمد شوقي الشعري، أو مسرح على أحمد باكثير.
ومن هذين السؤالين، نستطيع في ثقة، أن نقول: إن توظيف صلاح عبد الصبور لهذه المفردات المكانية المحدودة قد أغنى هذه المفردات، حتى أننا نحس للوهلة الأولى بتعددها، وكثرتها، بسبب جودة التوظيف، والقدرة على وضعها موضعا صحيحا يبعد عنها الملل والتكرار والفقر.
لكن ينبغي أن نلاحظ أن هذه المفردات تكثر في شعره أيضا، الأمر الذي يفرض على دارس مسرحه ضرورة ربطه بشعره خاصة شعره الدرامي ا.
كذلك يكشف البعد المكاني في الصورة الشعرية لديه عن توجه بصري حسي، ينحو نحو التجسيد والتشكيل المرئي، وعلى هذا النحو، تفسر معالجة الزمن عنده معالجة المكان أي تحويل الزمان إلى صورة مكانية محسوسة بالرؤية البصرية.
الهوامش:
ا- بشلار، جماليات المكان، ترجمة غالب هلسا، كتاب الأقلام رقم (1)، وزارة الثقافة والأعلام، بغداد، 1980، ص 46.
2 -Wolfgang Clemen, The Development of Shakespeare's Imagery - London, Methuen. 1966, p. 102
3- عز الدين إسماعيل، "الصورة الشعرية"، المجلة، عدد 34، 1969.
4- نعتمد هنا طبعة دار العودة، بيروت، للأعمال الكاملة لشعر ومسرح صلاح عبد الصبور، وسوف نشير إلى رقم المجلد يتبعه رقم الصفحة داخل المقال في نهاية الشواهد.
5- بشلار، جماليات المكان، ص 54.
6- عبد الله العروي، مفهوم الحرية، المركز الثقافي العربي، الدار البيضاء، المغرب، 25، 1983، ص 24.
7- هورست ولديكر، الانعكاس والفعل، ترجمة فؤاد مرعى، دار الجماهير، دمشق، دار ا الفارابي، بيروت، 977 1، ص 29.
وانظر في هذا السياق:
- جابر عصفور، (أقنعة الشعر العربي المعاصر)، فصول، المجلد ا، العدد 4، يوليو/ 43 سبتمبر 1981.
- رياض عصمت، (أربعة أقنعة مسرحية لصلاح عبد الصبور ) مجلة "المعرفة" السورية، العدد 132 ، 1973.
وانظر لجابر عصفور أيضا:
(معنى الحداثة في الشعر المعاصر)، فصول، المجلد 4، العدد 4، يوليو / سبتمبر 1984
8- السابق، ص 26، وانظر أيضا مواضع صفحات 19، 29، 31.