يكتبها أحمد الزنيبر
عن مجلة دروب
يمثل الشاعر محمد الحلوي علامة مضيئة في مسار النهضة الأدبية الحديثة بالمغرب، وعلما من
أعلامها المبرزين، إضافة إلى كونه صاحب تجربة إبداعية طويلة، تنم عن ذاكرة تراثية قوية ومخزون ثقافي متنوع ينهل من مختلف المرجعيات الدينية والفكرية والسياسية والاجتماعية.. فدواوينه الشعرية “أنغام وأصداء”، “شموع” و “أوراق الخريف” خير شاهد على غنى تجربته الإبداعية، وأكبر دليل على مدى مساهمته الفعلية في بلورة القصيدة العمودية المغربية، لغة وتعبيرا وإيقاعا.
وبغية الاقتراب من عوالم الشاعر التخيلية، تروم هذه الدراسة إلى تقديم قراءة نقدية حول ديوانه الثاني “شموع” لما يزخر به هذا العمل من سمات الفن والإبداع. فماذا عن هذا المنجز الشعري؟ وما هي موضوعاته وقضاياه؟ وبالتالي، إلى أي حد يمكن الحديث عن خصوصية شعرية تميزه عن غيره؟..
يضم ديوان [شموع] أكثر من مائة قصيدة تراوحت بين الطول والقصر، بحسب انفعالات الشاعر وتفاعلاته مع ذاتهن من جهة، ومع محيطه وبيئته، من جهة ثانية. وهي قصائد نظمت على فترات متباينة، وعنونت بعناوين ذات دلالات، إيحائية ورمزية في آن. كما حفل الديوان بقصائد متنوعة ألمت بكل الأغراض الشعرية المعروفة. وهي قصائد استطاع محمد الحلوي، من خلالها، أن يقدم صورا ومشاهد متباينة عن بيئته في تمظهراتها المختلفة، تارة، وعن مشاغله وأحاسيسه الذاتية، تارة أخرى.
أما الأغراض الشعرية التي شملها الديوان فتوزعت بين الدينيات والوطنيات والطبيعيات والقوميات والاجتماعيات والمراثي ثم الشوارد. والملاحظ أن القصائد الدينية والوطنية والقومية تميزت بطول النفس أحيانا، مقارنة مع باقي الأغراض الأخرى المطروقة.
شموع : العنوان والدلالة
إن أول ما يلفت الانتباه، في هذا العمل، هو العنوان الذي صاغه الشاعر ليكون الناطق الرسمي باسم قصائده، إذ يمكن التلميح إلى بعض الدلالات الكبرى، التي تختزلها هذه التسمية نذكر منها:
*/ “شموع” : مفرد بصيغة الجمع.
*/ “شموع” : إشارة للضوء والنور، وحضورها الوجودي والرمزي رهين بمدى احتراقها من أجل إضاءة ما حولها.
*/ “شموع” : مادة أدبية خصبة تغنى بها كثير من الأدباء والشعراء، في مختلف المناسبات، الخاصة منها والعامة.
*/ “شموع” : تقليد مغربي يقام كل سنة احتفاء بعيد المولد النبوي، وهي مناسبة لها حضورها التاريخي والديني وكذا الاحتفالي في الثقافة المغربية.
وبين هذا المعنى وذاك، تحرص هذه الشموع/القصائد أن تكون مادة إبداعية لا تخلو من شعرية جمالية ورومانسية.
لقد طرق الشاعر محمد الحلوي، كما أسلفنا، جل الأغراض الشعرية المتداولة في الشعر العربي؛ وهو الأمر الذي يعكس حجم الاقتدار الفني الذي مكنه ويمكنه من تنويع موضوعاته كلما اقتضى المقام الإبداعي ذلك. فمن أغراض الديوان الشعرية:
1 - الـديـنـيـات: ارتبط هذا الغرض بشعر المديح النبوي، وما تعلق به من قضايا إنسانية وإسلامية خالصة. وفي هذا السياق اهتم الشاعر بطقوس الدعوة الإسلامية وما عرف عن النبي (ص) من شيم أخلاقية جعلت منه أنموذجا لا يضاهيه أحد من الكائنات البشرية، سلوكا وأخلاقا. وتبعا لذلك تراه يعلن الولاء، في أكثر من قصيدة، ويظهر الحب والتشيع للرسول ولآل بيته والإشادة بنسبهم والتغني بأمجادهم. ولعل مناسبة الاحتفال بالمولد النبوي كانت خير فرصة له للتعبير عن عمق مشاعره وصدق عواطفه.
وهكذا تجد الشاعر، وهو يستحضر الماضي الذهبي الإسلامي، يجتهد في رصد مختلف الظروف التي نشأ فيها الرسول (ص) وما اتسمت به شخصيته من عفة وطهر ونقاء، وكذا ما عرف عنه (ص) خلال حياته المشرقة من نبل وشهامة جعلت النفوس البشرية تهيم بحبه وتطمع في شفاعته وإجارته يوم القيامة.
كما انشغل محمد الحلوي، خلال عملية الاستحضار تلك، بتوظيف “التاريخ” بغية الإحاطة والتوثيق، كالإشارة إلى عملية نزول الوحي، أو التلميح إلى إسلام عمر وخالد بن الوليد، أو التنويه بمعجزة الإسراء والمعراج، وموقعة بدر الكبرى وحدث الهجرة من مكة نحو المدينة، وما شابه ذلك من وقائع ومعجزات. يضاف إلى ذلك، حرصه على تفصيل القول في بعض المعالم والفضاءات الدينية، كالمسجد والغار وعرفات ونحوها..
ومن الواضح أن عوامل كثيرة ومختلفة هيأت للشاعر محمد الحلوي أن تكون قصيدته الدينية تعبيرا تلفه الروحية والمثالية. فتأثير الإسلام جلي في مدحه النبوي، إن على المستوى المعجمي، الذي تنوع بتنوع المضامين والتراكيب، أو على مستوى الأفعال التي غلب عليها طابع الماضوية لما يقتضيه السياق التاريخي من سرد للأحداث والوقائع الدينية، أو على مستوى تضمين الأبيات الشعرية لآي القرآن الكريم، وكذا للأحاديث النبوية وبعض الأمثال العربية.(*)
2 - الـوطـنـيـات: وتبرز خلالها علاقة الشاعر الحميمة بوطنه، حيث يتغنى في أكثر من قصيدة بالبطولة والجهاد والفداء. إنه شعر وطني غنائي بما تحمله الغنائية من معنى. فاستمع إليه متغنيا بوطنه حيث يقول (ص118):
دعوا الشمس تشرق في وطني
دعوا الروح تسبح في أفقه
وخلوا نشيد بلابله
تدغدغ ألحانها خلجاتي
ولا تحجبوا النور عن أعيني
بغير قيود تقيدني
مع الفجر ينساب في أذني
ويوقظ إيقاعها أرغني
ثم أنصت إليه منددا بالعدوان والتسلط والطغيان، في مثل قوله (ص75):
وللغزاة إذا طالت إقامتهم
خواتم مسكها زفت وبارود !
أما عن الأحداث التاريخية التي عرفها المغرب، وكذا التضحيات التي تبرهن عن مدى تشبث المغربي بأرضه وتحليه بالصبر والجلد في مقاومة الأعداء، فيذكرنا محمد الحلوي ببعض المعارك الخالدة كمعركة “وادي المخازن” (ص133) أو الإشارة إلى معركة “الزلاقة” ممثلة في قائدها يوسف بن تاشفين (ص91)؛ دون أن ينسى الشاعر الإشادة ببعض الأسماء الوطنية كطارق بن زياد وموسى بن نصير، أو ببعض الأعلام الأدبية كالقاضي عياض مثلا (ص70).
وحين يستحضر محمد الحلوي، في وطنياته، حالة الحنين إلى الماضي المجيد، تبرز غنائيته أكثر، وتظهر انفعالاته تحسرا وألما على ما أصاب بعض أجزاء هذا الوطن العزيز، كوصفه لحالة سكان مليلية بعد الاحتلال الغادر، إذ غدوا في وطنهم الأصل غرباء مهمشين. يقول(ص74):
جنت قوى الشر فانهالت بنادقها
كأنما جردوا من كل عاطفة
لم يشهدوا قبل فيها ما يروعهم
أبناؤنا في أراضيهم مهمشة
على النساء ولم تنج المواليد !
أو أنهم في بني الدنيا جلاميد
حتى تحداهمو فيها الصناديد !
موجودهم فوقها حي ومفقود !
ولما كان ارتباط الوطن بملكه، ارتباطا وثيقا، لم يغفل الشاعر في قصائده الوطنية أن يشيد به وبخصاله عن طريق المدح، بما يحمله هذا المدح من دلالات وطنية وسياسية. فالشاعر اعتنى بالممدوح/الخليفة عناية بالغة وأفرد له حيزا كبيرا من النعوت والأوصاف، باعتبارها ثوابت أساسية، كالنسب الشريف والأخلاق والشجاعة والرياسة. ومن ثمة لم يستغرب أن يكون ممدوح الشاعر من سلالة النبي (ص) ومنها اكتسب المقام الشريف وطهارة النفس؛ بل هو الحكيم المتبصر والعين التي يرى بها الشعب. كما أن الممدوح، فوق هذا وذاك، يعد حامي الملة والدين، الآخذ على نفسه الذود عن حوزة الوطن والمدافع عن كل رمز وطني أو عربي إسلامي، وبالتالي يستمد شرعيته في الحكم تبعا لما يجمعه وشعبه من روابط بيعة وولاء، من جهة، ولما يبديه من حزم وعزم في تسيير وتدبير شؤون الدولة، من جهة ثانية.
وفي هذا السياق الذي يعكس ما بين الممدوح والرعية، يذكر الشاعر ببعض المعارك التي دارت رحاها بين قومه وأعداء الوطن، حيث أبلوا البلاء الحسن مستمدين قوتهم وعزيمتهم من رضى الممدوح، من جهة، ومن حب الوطن الذي لا يعادله شيء، من جهة ثانية. يقول الشاعر (ص122):
ويا وطني أنت حبي الكبير
أمجد ربي ولو أن لي
وغيرك في الكون ما هزني
سواه، تخذتك لي وثني !
ويختم الشاعر وطنياته بقصيدة شعرية اعتمدت نشيدا رسميا للأكاديمية الملكية العسكرية، لما يميزها من انسياب إيقاعي وتوزيع للمقاطع وتنويع للقوافي واعتماد لازمة عند كل مقطع شعري.
3 - الـطبـيـعـيـات : وتندرج ضمنها تلك القصائد التي تعتمد في صياغتها أساسا على الوصف والتصوير الفني، وما يقتضي ذلك من صور بيانية وأساليب بلاغية مكثفة. ومن هنا، لم يكن الشاعر محمد الحلوي بعيدا عن هذا العالم وفضائه. فهو يستلهم من الطبيعة صورا رائعة وأفكارا عميقة تكشف عن حبه وعشقه الشديدين لكل ما تزخر به عوالمها وأفضيتها من أسرار وسحر وجمال..
ولما كانت الطبيعة جزءا من عالم الشاعر فإن عنصر “الوصف” فرض نفسه وسيلة وغاية في هذا الغرض، إن لم نقل في كل الأغراض. ولا عجيب في ذلك، ما دام الوصف أصل الفنون الشعرية على رأي ابن رشيق في عمدته.
هكذا إذا تتبعنا قصائد محمد الحلوي، في وصف الطبيعة، حيث التفاعل القائم بين الذات الشاعرة وما تفرزه مظاهرها المختلفة باختلاف الأجواء والفصول، نجدها وقد تمثلت في صور ومشاهد إبداعية تعبق معانيها بالشعرية والخيال. فمحمد الحلوي يعتني، في قصائده، بمجمل الحالات التي تكون عليها الطبيعة تبعا لتقلب فصولها من شتاء إلى ربيع ومن صيف إلى خريف. فهذا فصل الربيع قد حل في موكبه البديع تحول إثره الكون إلى نضرة وبسمة وعطر فواح. فالأرض حديقة غناء تغري الرعاة بالشدو، والأطيار بالرقص والغناء، أما الشمس والغمام والندى وباقي العناصر فنشوى بحلول هذا الفصل/العيد. يقول: (ص 147)
رشف الربيع مباسم الأزهار
وتفتقت أكمامها عن جنة
والأرض نشوى في مطارف وشيها
مسحت يداها الثلج عن ربواتها
روى الغمام سهولها ومروجها
فتفتحت عن طيبها المعطار
خضراء بين نضارة ونضار
تختال بين شقائق وعرار
وتعممت بعمائم الأزهار
وسقى الربى بصبيبه المذرار
ولا شك أن حب الشاعر لوطنه، انعكس إيجابا على ما ابتدعه في هذه الصور المجازية وغيرها، التي خصها للطبيعة. فالوطن عنده، في هذا الفصل الربيعي الباسم، تجاوز حقيقته كفضاء إنساني، فهو نور ونعيم وجنة خضراء.
وإذا كان فصل الربيع، يوحي بالحياة والمتعة فإن لحظة طبيعية أخرى تعكس الآية، فتغدو معها الحياة كئيبة متجهمة وكأنها في حداد. يقول محمد الحلوي: (ص 152)
الجو أدكن والطبيعة ترتدي
والسحب تذرف في سخاء دمعها
هذي الرياض فأين وشي زهورها
دنيا انطوت بجمالها وضيائها
ثوب الحداد كأنها لم تبسم
والريح تزأر في مأتم
وعبير رياها؟ وأين حمائمي؟
وطوت محاسنها يد لم ترحم
دون أن يغفل الشاعر، خلال ذلك، وصف الحيوان وما يتعرض له من قسوة بفعل غضب الطبيعة وتقلباتها المختلفة، يقول من نفس القصيدة: (153)
والطير كالتمتام أخرسه الأسى
ضاعت وهامت بعد ما عصفت بها
غطى الجليد مروجها وتلفعت
أصباحها مثل الظلام المعتم
هوج الشتاء بعشها المتهدم
بمروطه في ذلة المسترحم !
كما لم يفته وصف حالة امرأة عجوز تتسول خلال فصل الشتاء، فينقلنا عبر صوره البديعة، إلى عالم الفقراء والمهمشين. فها هو يقدم صورة هذه المرأة البائسة وقد عضها الجوع وأودى بها البرد. يقول الشاعر: (ص 154)
مقرورة عصر الطوى أمعاءها
لم يبق منها الجوع إلا هيكلا
غطت وجيها شاحبا بملاءة
وبكت فلم يسمع بكاها عابر
وتوسدت أرضا تبلل تربها
فتكومت في جنح ليل مظلم
أودى به البرد المجمد للدم
مسحوقة من عهد جدك آدم !
يرنو إليها في ازدراء مؤلم
وتأوهت في حالة المستسلم
وبعد الوصف الذي يفرده الشاعر للطبيعة، ينتقل بنا إلى وصف خاص بالعنصر الإنساني، دون أن ننسى صعوبة الفصل، أحيانا، بين الطبيعة كحالة ومكان أيضا وبين الإنسان كجزء لا يتجزأ من هذا الفضاء، في بعديه الزماني والمكاني. يقول محمد الحلوي، في حنينه إلى مسقط رأسه فاس وذكرياته بها وعهده بوادي الجواهر، مثلا: (ص 159/161)
ذكرت به أيام أنسي وصبوتي
وقلبي بأطياف الجمال موله
وغصن شبابي ناعم جد ناضر
وكل جمال في الطبيعة آسري