أخيرا انفلتت من رتابة العسس ، ورفقة الديدان ..وعيون الأحياء الباحثة عن حكايات الموتى المليئة بالقصص الغريبة الموحشة..
حتما يستبقون هلع الموت وهم قيد المعيشة الضنكة ،بالحكي عنه مع التتبيل ببهارات الدراما
و العجائبية ليروضوا خوفا أبديا من لحظات حساب عسيرة ينجلي فيها سعيهم الدنيوي شاهدا عليهم..إذ ينطق السميع العليم جوارحهم ..
ولا يغادر ربك أحدا !..
.... .... ..... ....................
هي الآن تكور حبات الرمل بين يديها ..
وهناك في مرآة الزمن، تنبجس مغبشة ، قامتها النافرة وهي تنفلت من هصر الموج لجسدها الوارف التضاريس ..
المثقل بالحنين للمرسى..
يداها تنضحان حمرة ويوسف يرميها بكرة " السماتش" في حلقة الكرة الطائرة.. وتتصدى لها هي وتعيدها له بالتي هي أوجع..
وتواصل الذاكرة طوافها بزوايا الجغرافية الغاربة لشواطئ الأمس الآفل ، وقدماها تزحفان نحو صفحة الرمل المبللة ..
لم تنس أبدا تلك المرأة التي أصابتها الكرة في وجهها، وجعلتها هستيريا الغضب تستدعي شرطة الشاطئ للقبض على اللاعبين والزج بهم في المخدع الخاص بأمن البحر وحجزهم حتى ساعة متأخرة من المساء..
الأجنبيين المسلوقين كحبتي طماطم وهما يفترسانها بنظراتهما النهمة ..
بائع الزريعة والكاوكو والحمص والبسكويت وعلب العلك شوينكوم ، وهو ينادي المستحمين اللاهثين خلف الشمس والموج واللعب ، الذاهلين عن مقرمشاته ، ويصيح بهم بصوت غنائي راقص:
كاوكاو سخون كاوكاو
كاوكاو سخون كاوكاو
.قصص الغرام التي كانت تنعقد وتنفرط كهذه الموجات التي تجتاز قدميها.. راكضة إلى حتفها الأخير على جنبات الشاطئ..
ذؤابات الصخور ونتوءاتها التي كانت تحتضن تجاويفها ثرثرات الصيادين، وحنينهم لمرافئ الأمان البعيدة ..
تلك الرائحة الزفرة الحادة لطعم السمك المندلق من شباك الصيد ..
..........................................................
وانحسرت صور شريط الشقوة اللذيذة ، وعيناها تلمحان الرجل الذي يطيل النظر إليها ..هناك فوق الصخرة ..
غير ممكن.. تمتمت في نفسها باستغراب ..
أيكون هو ؟!..
أتراه جاءها من ذلك الزمن ليهمس في أذنها أنه هو ؟..
هل عاد من الغرب ؟
هل طلق النصرانية؟
ترتقي الصخرات المتواشجة ، إلى حيث يجلس، بخفة قلقة ..
الملوحة والرذاذ يوصدان عينيها، فتلوذ بصور وشخوص وكركرات وخيبات متواترة..وأصوات وروائح سكنت تجاويف القلب الخلفية وامتطت صهوة الحضور العصي على الانمحاء..
كلما استبدت بها العزلة وسط الجوف من الأحياء/ الأموات ، خفت إلى دهاليزها تقلب صفحات الزمن الذي لن يعود..
ـ هل تريدين سيدتي سمكا طريا، اصطدته للتو ؟
قال الرجل ، وطفق يزيل كيسا بلاستيكيا عن سمكاته العجاف بالسلة ..في حين كانت هي ، غير معنية بسمكاته ، تمطره في سرها بسؤالها المخبئ في تلافيف الذاكرة المجروحة ..
لماذا رحلت إليها ، وتركت فستان فرحنا، لعتمة النسيان تأكله الأرضة ، ونشارة الزمن؟ ..
أتراها لفضتك بعد أن امتصت رحيق الفحولة فيك ، وطراوة الانبهار الأول بالآخر، وتركتك لشعيراتك البيضاء المتكاثفة ، وسمكاتك الكابية البريق؟..
ـ سأخصم لك من الثمن سيدتي قال الرجل بنبرة شجية وهو يسرح ببصره في فضاء لا يسكن إلا خياله .. ثم أردف وهو يعود من تحليقه الممض ليتفرس في ملامحها بعينين دامعتين
ـ تذكريني بامرأة نصرانية تزوجتها لشبهها التام بامرأة مغربية عشقتها حد الجنون، لكن لم يكتب لي الزواج بها ..
ماتت ليلة عرسنا !!
ولو عاشت لكانت شبيهة بك ..قال الرجل بلوعة زادت غضون وجهه توغلا ، وأهالت على ملامحه ستارة من شجن عارم ، تعثرت معها أنامله في غمرة ارتجافها وعيناه مسمرتان على دمعات كانت تهمي عجلى على خدي المرأة الكسيرة أمامه ..
..................................................
وهو يلتقط السمكات التي سقطت من يديه المرتعشتين ،ويواصل البحث عبثا عن كيس بلاستيكي ليضعها كلها فيه ، ويقدمها هدية لإمرأة الزمن الجميل العائد في سحنة الغريبة ، كانت هي تيمم شطر المقبرة القريبة من الشاطئ لتعود إلى قبرها ، وتنام أخيرا ..راضية