غرفة كحويصلة عصفور، أمتار مربعة تفي بنشوة الخلوة،كتب هنا وهناك تشغل المكان، وخيال إنسان نحيف يهتز جانبا،يسامر شمعة خودا مغرية،يكاد يسقط تبتله صريعا من غدائرها المسترسلة،قلم مسجّى،أوراق مصفوفة، وفنجان قهوة يدعوه لصحو ليلة قمراء.
الواحدة بعد منتصف الليل، ولمّا تنم هذه الأفكار المؤرقة،ترجّه رجّا، تهزه هزا، كعفريت مارد مكبّل من عهد سليمان يروم انعتاقه،مقيد بسحر اللحظة،مرهف سمعه لأصوات معربدة تترامى من داخله،تمتد يده للفنجان في عفوية كل حين،تدق الساعة الحائطية من جديد،وتسري قشعريرة في صمت المكان. مازالت الشمعة الفارعة ترقص للظلمة، ومازال الكاتب شاخصا في وجوم إلى القلم والورقة. كل شيء في هذه الغرفة يدعوه لفعل الكتابة المقدّس. رشفة القهوة لا تقاوم،ورقصة الشمعة مغرية، والورقة والقلم في خضوع كلّي....
كادت الساعة أن تنتصف،يقف متثاقلا بقامته المديدة،قاصدا زجاجة ماء خارجا،وتجره قدماه للنافذة، بعينين بارزتين حالمتين اعتاد رؤية القمر، والتسلي بعدّ النجوم قبل الإقدام على الكتابة في مثل هذا الأوان...ثم يعود مطرقا صوب الغرفة عابثا بصديقه القلم، متقوقعا في ركنه،مصغيا لجوقة أفكاره...تبدو الجملة الأولى من مقاله متمنعة عليه- ليلته هذه- تشاغبه ،تتهرب من سلطته،تحضره الكلمات معربدة في سفور واضح، لا يليق بوقاره، كاتبا ومفكرا له بريقه.ما زالت الشمعة ترقص بضيائها على الورقة البيضاء. ومازال القلم بقربها مسجى. دقت الساعة من جديد، فتحرك الصمت الخامل من سباته، وتململ الكاتب عن كرسيه، يجوب الغرفة الضيقة ببصر حسير . عسير أن تمكث - ساعات – أمام ورقة ولا تلبسها نسيجا سندسيا من قلمك...ألف فكرة لا تجود بالجملة؟ ليلة عجفاء غير منتظرة. همّ بالنهوض مستسلما، لولا هذا البياض اللّعين أقعده من جديد. كل شيء-هنا- يحفز على الكتابة،الشمعة أجهدت،باخ ضياؤها،والصمت نام قبل حين...الشكل والمضمون والبيان كلمات بلا معنى، ولسان العرب مقفر إلا من كلمة تصطلي في ليلتها الباردة بباقي الورقات. إرادة كتابة ولا كتابة،وهذا القلم في حرج،وهو حصور أمام مغريات الورقة،دقت الساعة من جديد،مد الخشوع رجله في المكان،وكاد الصبح أن يتنفس، ليلة عجفاء !!
وعلى استحياء- أخيرا- تناول هذا القلم،وأدنى الورقة..المهم أن يكتب- كيفما اتفق- كلمة، حرفا، شبه جملة،في لحظة الهزيمة كل ما يجاد به مستساغ،المعنى واللاّمعنى... وإن بد ت الكلمات متدابرة ؟؟.
وكان ذا معنى عنده ما خطه في الأخير وشما على إهاب الورقة المشاغبة "لا"تنزعج إن قلاك شيطان الكتابة أحيانا، فرب فكرة كانت أنفع بعد حين". بقلم : حميد كوفة