قراءة فى: ديوان الزجل "نبع الحب" لمحمد سالم
جابر بسيونى
فى مطلع الثمانينات من القرن العشرين التف حول الشاعر السكندرى الكبير الراحل/ أحمد على السمرة عدد كبير من الشعراء والزجالين ينهلون من علمه ويستقون مبادئه الحياتية والإبداعية ومنهم: محمود سالم، محمد طعيمة، أحمد شاهر، يسرى غيث، بهاء الدين محمود، أحمد عبد القادر، حسن شلبى، عبد الله حسين ومحمد سالم.
ونخص بالذكر هنا "محمد إبراهيم سالم" الذى صدر له ديوانه الأول بعنوان "نبع الحب" عام 2002 ويضم عدداً كبيراً من أزجاله وأغنياته تعكس لنا سماته الشخصية والإبداعية.
و"محمد سالم" إنسان تجسد فيه صفات الحب والسماحة والعطاء والاستغناء عن ماديات الدنيا وأطماعها، فهو إنسان يؤثر على نفسه أصدقاءه وأحباءه وقد تجلى ذلك فى ديوانه "نبع الحب" الذى قدم لنا العديد من السمات الانسانية السامية فها هى سمة الوفاء تطل من زجله إلى شريكة حياته التى تمثل بالنسبة له الأسرة والدرب والصديق والأنيس الطيب، ويقول لها:
إنتى الولد والبنت
إنتى الكلام لو قلت
يا رمش غطى جفونى
من المغول والتبت
وتطير على غصنى
تسند إيديه إن شبت
إنتى فى حياتى الست
إنتى النهار والنور
يا حَب حَب عيونى
لو حد هز حصونى
محروستى تحرسنى
وتكون عصاية ندى
وفى هذه الأبيات نلمس قدرة الشاعر على التصوير الفنى فى قوله:
وتكون عصايه ندى.. تسند إيديه إن شبت
فالزوجة هنا عصا الندى فى شيبه وهى من قبل العوض عن عدم إنجابه للولد أو البنت وهى الحصن الذى يلوذ إليه من خطوب الحياة وآلامها.
وأيضاً يؤكد الشاعر على قيمة الوفاء فى العديد من مواضع الديوان وخاصة فى زجله إلى أستاذه الشاعر الكبير كامل حسنى رئيس جمعية أدباء الشعب التى تأسست فى الخمسينات من القرن العشرين وكانت لمحمد سالم يد بيضاء فى تأسيسها ويقول فى زجله إليه:
يا كامل يا حسنى مكمل لى حسنى أقابلك تبوسنى وباشتاق يوماتى
وشوقى واخدنى يـا ريتك تزيدنى ولمـا تفيدنى تحقق لـى ذاتى
وبرغم حرص الشاعر على إظهار قيم الوفاء والحب لشريكة حياته ولأستاذه كامل حسنى ولغيرهما إلا أنه لم يضمن ديوانه أى إشارة إلى أستاذه ومعلمه الأول "أحمد السمرة".
ويتجه الشاعر إلى الله عز وجل ورسوله صلى الله عليه وسلم فى أكثر من عمل يؤكد عقيدته الإسلامية السمحة الجلية ويتضح لنا ذلك من طقطوقة "إن كان كده حكمك"
إن كان كده حكمك سلمت أمـرى إليك
وكل شئ أمـرك والملك لـك وإليك
يـارب
التوبة لك يا رب من كل شئ يغضبك
ومهما كان الذنب العبد عاش يرهبـك
يا رب يا تواب أنا جيت على بابـك
إلهم قلوبنا ثواب للرحمة ف رحابـك
يـارب
يا خالق السموات ورافعها بلا عمدان
أوهب إيماننا ثواب واهدينا للإحسـان
إرحمنا يا خلاق واملى قلوبنا إيمان
يا موزع الأرزاق واسمك الرحمـن
يـارب
مذهب وغصنان تتكون منهما الطقطوقة الغنائية السابقة ويأتى الشاعر بعد المذهب بكلمة واحدة يارب وكذلك بعد كل من الغصنين وكأنه يضع صوتا خارجيا يمثل صوت الجماعة (الكورس) الذى يؤكد على مشاعره الدينية العميقة المقرة بوحدانية الله وقدرته ولم يأت بأكثر من كلمة يارب لأن فيها الاستغناء عن كل قصد أو تعبير وهى لفظة جامعة لكل المعانى ومانعة لسواها.. فهل مع يارب شئ يضاف!!
ويؤكد حُبَّه لرسول الله فى زجل طويل عدّد فيه سمات سيدنا رسول الله التى تجلى بها الله عز وجل عليه فى الإسلام وعلى المسلمين:
لاجله رسول الله حاكتب كلامى وأقول
ألفين سلام وصلاة لافضل نبى ورسول
يوم مولده كان يوم رحمة ونور وسلام
فرحت سما ونجوم م اليوم بقى إسلام
ويتميز الشاعر أيضاً بقدرته على صياغة القصة الزجلية بكل ما لها من قدرة على كشف سلبيات الواقع وإظهار ما به من مظاهر سلبية ويتضح لنا ذلك فى زجله "خروف العيد" الذى يجسد لنا أمنية الإنسان البسيط غير القادر على شراء خروف العيد وقد أحسن استخدام المفردة المعبرة عن روح الشعب ومعاناته، تضحك لها وتبكى من أثرها، وتلك مهارة الزجال ومقصد من مقاصد فن الزجل:
رئيفة قالت له يا عبـد الرؤوف زهقت وطهقت ف طابور الوقوف
تعالى المجمع معايـا وشـوف منايـا اشوفـك داخلى بخـروف
إلى قوله:
منايا اشوف الخروف لو رومانى لصْبـرى يقلب ويصبـح ضـانى
وقوللى لامتى ح اعيش ع الأمانى وعمرى ما دقتش معاك ربع ضانى
يمين بالتلاتة ان ما جبت الخروف نهايتك يـا روحى تكون بين إيديه
تقوللى العـلاوة تقوللى الظروف ما ليش أى دعوة بقيت الضحيـة
ويُبدع فى زجله "يابا نويل" إذ يقدم لنا صورة من صور العادات والتقاليد إذ يحتفل بليلة رأس السنة الميلادية باقتناء دمية تسمى بابا نويل والشاعر يأخذ من بابا نويل معادلاً موضوعياً ليعكس همّه ويلقى عليه سخطه من عجزه عن تحقيق أمنياته التى تتلخص فى "رغيف خبز يشد الحيل" و"وقف الحرب" و"أن يعيش البشر فى أمان":
جـاى لنا بكـره هنـا يهديه بابـا نويل
من بعد غيبة سنهْ راجـع ف نص الليل
يقابلنى ويفرحنى راح أقول له لو تسمح
قدملـى هديـهْ رغيف يشـد الحيـل
ونتأمل قدرة الشاعر على التعبير الزجلى الجميل من خلال مضمون ذاتى يقدم لنا عاطفة الانسان الذى ينشد دفء الود والحب مع توالى شهور السنة التى تبدأ من مايو بداية الحر وانتهاء بإبريل الذى يؤكد كذب مشاعره وخيبة ظنه تحت عنوان "كدبة إبريل" يحسن الشاعر استخدام البحر العروض المتقارب باستعماله ستة تفاعيلات فعولن فى البيت الواحد على ثلاثة مقاطع يتفق الروى فى أولها وثانيها ويختلف فى ثالثها، مما يعطى للأذن موسيقى زجلية تشد الانتباه وترغب فى الاستماع إليه أو قراءته دون ملل:
ف مايو اتقابلنا فى يونيو تواعدنا وكان الكلام
ف يوليو افترقنا وليه كان طريقنا بداية خصام
***
ما جيتش ف أغسطس وقلبى بيهمس وانا لسه صابر
وسبتمبر اللى ما جيت فيه تقوللى بانك مسافر
ف أكتوبر انت ما تَبْعتْش حتّى مجرد جواب
يا خوفى نوفمبر يعدى وديسمبر يزيد ف العذاب
يناير ما حسه ف فبراير انسى كلامك معايا
يرجعنى صوتك وهمسه سكوتك لنفس الحكايه
ومارس يعدّى ولا حلم وردى يقول انتى حبه
وإبريل براحته يقوللى بصراحته غرامك دا كدبه
وفى "كدبه إبريل" يسجل لنا الشاعر سمة من سمات الشعب المصرى الذى يتميز بخفة الظل فى اعتقاده أن الخبر المعلن فى شهر إبريل هو خبر كاذب وقد نجح الشاعر فى معالجة هذه السمة فنياً ومن خلال إطار زجلى جذاب ومضمون إنسانى مشوّق.
ويتميز محمد سالم -أيضاً- فى هذا الديوان بقدرته على صياغة الطقطوقة الغنائية خفيفة الروح، سهلة المفردات، بسيطة الإيقاعات ومنها: "قعد وارتاح"
ولقيته ف قلبى قعد وارتـاح ما عرفش منين جاب المفتاح
غيّر لى سنين عمرى بحالها وملالى الدنيا هَنـا وأفـراح
وقعد وارتاح
ونلاحظ فيها المباشرة والوضوح وعدم الغموض وحلاوة الفكرة والتعبير عنها وتلك سمات فن كتابة الطقطوقة الغنائية، ولكن الشاعر فى طقطوقة "محتاجة منك" وبرغم نجاحه فى صياغة مذهبها:
محتاجة منك كام توضيح وياريت تكون ويايا صريح
وان كنت راح تلعب بيّه ما قبلش أعيش والقلب جريح
إلا أنه فى النصف الأول منها لم يُحسن الصياغة اللفظية ولم ينجح فى اختيار المفردات المعبرة عما يريد، فقدم لنا فى النصف الأول صياغة لفظية غير معاصرة وتُعد مستهلكة قديمة ثم تلاها بصياغة لفظية معاصرة جميلة مبهرة وهو القادر على إعادتها لكى تصبح فى نسيج لفظى معاصر واحد وتأمل:
كلامك الحلو أسرنى أعيده بين عقلى ونفسى
ويوما تيجى تكلمنى باعيش ما بين حلمى ويأسى
فالألفاظ -أسرنى وعقلى ونفسى وحلمى ويأسى- كلها معادة مستعملة ولا تناسب احتياج الواقع الآن فى هذا المجال ثم يقول بعدها:
أشوف أمورك استغرب وانزل بحورك واتغرب
أخاف أقرب تتهرب واتوه أنا فى مهب الريح
شتان بين هذه القدرة فى الصياغة والمهارة فى اللعب بالمفردات وتوظيفها وبين ما سبق مما يشكل تباينا واضحا فى غصن واحد من أغصان الطقطوقة ومما لا يستقيم معه الاستماع لها والاستمتاع بها.
ولم ينس الشاعر مدينته الإسكندرية فعبر عن عشقه لها فى زجل "إسكندرية"
ما ليش ف الدنيا ديه غير حبك يا مريّه
أنا أصلى اسكندرانى وحبيبتى اسكندريه
النخوة جوه دمى تجرى ف شريانى
والبحر وحضن أمى غيرهم ما ليش تانى
ما أجمل أن يدلك الشاعر على مدى عشقه لبحر الإسكندرية بمقارنته بحضن الأم رمز العطف والأمان والحنان.
وينجح الشاعر أيضا فى استخدام المعادل الموضوعى متجسداً فى العصفور ويحسن إظهار الصوتيات الموسيقية من خلال المفردات اللازمة بالعصفور ككائن حىٍّ يعكس من خلاله مشاعره ووجدانه، مستخدماً أسلوباً زجلياً درامياً جذاباً:
عصفوره طارت ع الشجر مش لاقيه ليها وليف
قالت دا حكم القدر ولا سحابة صيف
***
صوصو لها عصفور على فرع متدارى
باين عليه مقهور حير لى أفكارى
طارت إليه صوصوت صوصو بصوت مسموع
من لهفته اتحيرت قالت أكيد موجوع
***
نادت جميع الطيور خدوه على عشها
وبان عليه السرور بجناحه قام ضمها
شافت جناح مجروح من بندقيه صيد
والجرح كان مفتوح بطلق نارى شديد
***
عالجت جراحه وطاب وفجأة غاب عنّها
مالقيتش م الأحباب يواسى يوم جرحها
طارت وفوق الشجر تبكى بشكل حزين
قالت دا حكم القدر وليه عليّه ضنين؟!
مما سبق يبدو جليا أن محمد سالم مبدع فى فن الزجل أحب الناس وعاش بينهم وعبر عنهم من خلال مضامين زجلية أكدت على ماهية الزجل لديه وإيمانه بها ويبقى لنا أن نتساءل: متى ستظهر بقية إبداعاته الزجلية مطبوعة وبين يدى محبيه ومحبّى فن الزجل؟!
