حقوق السجين في الشريعة الإسلامية
الحلقة الثانية:حقه في الدفاع عن نفسه
الدكتورة:صباح بلحيمر
حق المتهم السجين في الدفاع عن نفسه،معناه دفعه الاتهام عن نفسه إما بإثبات فساد دليل الاتهام أو بإقامة الدليل على نقيضه،فلا بد من السماح له بالدفاع عن نفسه وإلا تحول الاتهام إلى إدانة.
ودفاع المتهم عن نفسه لا يعد حقا للمتهم وحده،بل هو حق للمجتمع وواجب عليه،حتى لا يفلت المجرم الحقيقي من العقاب.
وأكد عليه الرسول عليه الصلاة والسلام في وصيته لعلي بن أبي طالب رضي الله عنه حين ولاه اليمن فقال له:"يا علي إن الناس سيتقاضون إليك فإذا أتاك الخصمان فلا تقضين لأحدهما حتى تسمع من الآخر،كما سمعت من الأول،فإنه أحرى أن يتبين لك القضاء وتعلم لمن الحق"1.
وروي عن عمر بن عبد العزيز رضي الله عنه أنه قال لأحد قضاته:"إذا أتاك الخصم وقد فقئت عينه فلا تحكم له حتى يأتي خصمه،فلعله قد فقئت عيناه جميعا"2.
والأصل في الدفاع أن يتولاه المتهم بنفسه لأنه حقه بشرط قدرته عليه،فإن عجز عنه لم تصح إدانته ،لذلك رأى بعض الفقهاء منع معاقبة الأخرس على جرائم الحدود،ولو اكتمل نصاب الشهادة ضده،لأنه لو كان ناطقا فلربما أتى بدليل يدفع عنه الاتهام ،ولو أقيم عليه الحد باكتمال الشهادة،لم يعتبر ذلك عدلا لأنه إقامة للحد مع الشبهة3.
وقد يستعين المتهم بمن يدافع عنه ،لأن حق الدفاع أصلي ثابت للمتهم يباشره بنفسه أو يكلف من ينوب عنه فيه ،يحيطه علما بالتهم الموجهة إليه ،والأدلة المتوفرة ضده،ويعينه على فهم ما أسند إليه وينبهه على ما له وما عليه ويساعده في دفع أدلة الاتهام ،وقد مثل هذا الحق سلفنا الصالح ومنه القاضي الأندلسي بقي بن مخلد فقد اختصم إليه رجلان ،فنظر إلى أحدهما يحسن ما يقول،والآخر لا يدري ما يقول،ولعله توسم فيه ملازمة الحق،فقال له:"يا هذا لو قدمت من يتكلم عنك فإني أرى صاحبك يدري ما يتكلم،فقال له:أعزك الله إنما هو الحق أقوله كائنا ما كان،فقال القاضي:ما أكثر من قتله قول الحق"4.
وحق المتهم في الدفاع عن نفسه،يقتضي تمكينه من الإدلاء بأقواله في حرية تامة،بدون تعذيب أو خديعة أو ضغط أو إكراه5،أو أي شئ يؤثر على إرادته الحرة وله الحق في الصمت، و الامتناع عن الإجابة عن كل أو بعض أسئلة التحقيق،وإذا أقر على نفسه فله الرجوع عن إقراره.
إكراه السجين المتهم على الكلام:فلا يجوز إكراه المتهم لحمله على الإقرار،قال ابن حزم:"فلا يحل الامتحان في شئ من الأشياء بضرب ولابسجن ولا بتهديد،لأنه لم يوجب ذلك قرآن ولا سنة ثابتة ولا إجماع،ولا يحل أخذ شئ من الدين إلا من هذه الأصول الثلاثة بل قد منع الله تعالى ذلك على لسان رسوله صلى الله عليه وسلم بقوله:إن دماءكم وأعراضكم وأبشاركم عليكم حرام،فحرم الله تعالى البشر والعرض،فلا يحل ضرب مسلم ولا سبه إلا بحق أوجبه قرآن أو سنة ثابتة"6.
ولذلك ذهب جمهور الفقهاء إلى أن الإكراه على الإقرار بحق أو جناية باطل ،لا يترتب عليه أمر من الأمور لقوله سبحانه وتعالى:"إلا من أكره وقلبه مطمئن بالإيمان"7.
فيتضح إذن بأن العلماء لم يعتبروا الإكراه من باب السياسة الشرعية،بل يترك أمره لولي الأمر إن شاء ترك.
وخالفهم بعض متأخري الحنفية الذين ذهبوا إلى تصحيح الإقرار مع الإكراه بضرب أو حبس إذا كان المتهم معروفا بالفساد والفجور، مستدلين بحديث ابن عمر رضي الله عنهما،أن النبي عليه السلام قاتل أهل خيبر،فغلب على الأرض والزرع والنخل ،فصالحوه على أن يجلوا منها ولهم ما حملت ركابهم ولرسول الله صلى الله عليه وسلم الصفراء والبيضاء،ويخرجوا منها واشترط عليهم أن لا يكتموا شيئا ولا يغيبوا شيئا فإن فعلوا فلا ذمة لهم ولا عهد ،فغيبوا مسكا فيه مال وحلي لحيي بن أخطب كان احتمله معه إلى خيبر،حين أجليت بنو النضير،فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لعم حيي: ما فعل مسك حيي الذي جاء به من النظير؟فقال:أذهبته النفقات والحروب،فقال:العهد قريب والمال أكثر من ذلك.
فدفعه الرسول عليه السلام إلى الزبير فمسه بعذاب،وقد كان حيي-قبل ذلك-دخل خربة فقال:قد رأيت حييا يطوف في خربة ها هنا،فذهبوا وطافوا فوجدوا المسك في خربة .8
وفي نظري فإن استشهاد بعض متأخري الحنفية بهذا الحديث للقول بجواز الإقرار مع الإكراه ،مردود لأنه وارد في يهود محاربين نقضوا العهد الذي كان بينهم وبين المسلمين،ولا علاقة له بتعذيب متهم يتأرجح حاله بين البراءة والإدانة.
الهوامش
1-أخرجه الترمذي في كتاب الأحكام،باب ما جاء في القاضي لا يقضي بين الخصمين حتى يسمع كلاهما،رقم الحديث 1331،سنن البيهقي الكبرى كتاب آداب القاضي،باب القاضي يكف كل واحد من الخصمين.
2- تاريخ قضاة قرطبة للخشني ص 170.
3-المبسوط لشمس الدين السرخسي 18/172.
4- تاريخ قضاة قرطبة ص 170.
5- المغني لابن قدامة 5/87-المبسوط 9/184
6- المحلى لابن حزم 11/141
7-سورة النحل آية 106
8 –ذكرت القصة بتفصيل في سيرة ابن هشام 4/307،زاد المعاد في هدي خير العباد لابن القيم 3/249.