الشمس تشرق...
ما عاد يدري من أين تأتيه اللكمات، فقط يعلم علم اليقين أنها جميعا تستقر في جسمه المنهك والمنهار يوما عن يوم، معصوب العينين، مكبل اليدين، ما عساه يفعل وسط الظلام الدامس، اختلط عليه الليل بالنهار، وما عاد يدري إن كان الجو حرا أو بردا، رطوبة المكان بعثرت المعايير في عقله، وحدها الكدمات المنتشرة في شتى أنحاء جسمه انتشار الجنود في ساحة المعركة تذكره بأن خريطة جسمه تغيرت كثيرا عما كانت عليه في السابق، باختصار لقد ساءت حاله.
كل يوم يحس بأن جسمه يتضاءل كما في سلسلة الرسوم المتحركة إذاما ارتفع صراخ سجانه وهو يحثه على ازدراد وجبة العدس لأن الدقائق الخمس المخصصة لهذا الغرض على وشك أن تنتهي، كان يلتهم حبات العدس الممزوجة بالحصى دون أن يحس بمذاق الطعام أو نكهة الأكل، فقط يلبي حاجاته البيولوجية حتى لا بيوء بذنب معدته الخاوية... مع مرور الوقت فقد شهيته للأكل، فما عاد الجلاد يحضه على الإسراع، ولكنه دوما يأتيه بحصته من العدس تنفيذا للأوامر.
كلما التفت إلى جواره بحثا عن مواس يخرجه من وحدته القاسية وجد الليل البهيم يحيط به من كل جانب ويحاصره في كل اتجاه، ما أصعب أن يحس المرء أن حياته ليل طويل لا ينتهي، ليل لا تضاء فيه شموع ولا يسطع في سمائه قمر، هذا الليل ليس له سماء، فقط له أرض جوفاء تستقبل الجميع بالأحضان والقبل.
لا يخلو يوم له من ممارسة الطقوس المعتادة، وتطبيق البرنامج الرسمي: عدس، امتناع، ثم استنطاق، ارتباك فركل ورفس ثم صراخ...
ما أقسى أن تصرخ ملء فمك ومن أعماق أعماقك، وأنت تعلم علم من جاءه الخبر اليقين أن أحدا لن يسمعك، فبالأحرى أن ينقذك .. هنا لا منقذ، هنا لا مجيب غيرك يا الله.....
ساعدني ياالله.. سامحني ياالله، أنت أدرى بحالي، إن أخطأت فقد أديت الثمن وزيادة، ثمن الأخطاء التي ارتكبت والتي لم أرتكبها بعد، وقد لا أرتكبها على الإطلاق.
ما اسمك....؟
للمرة الألف يسألونه عن اسمه واسم أبيه وأمه وجيرانه.. وعن كل الوجوه التي رآها في أحلامه. يكاد لا يجيب ولكنه مضطر لأن يجيب، حرية التعبير الوحيدة المتاحة في هذا المكان هي الإجابة على قدر السؤال، وسواء أجاب أم لم يجب فسيضرب ضربا مبرحا ويعذب عذابا بالقدر الذي ينسيه اسمه. تنوعت أساليب التعذيب وتعددت: الكرسي، الطائرة.. وغيرهما كثير من الأساليب التي لم يهتد إلى تسميتها ولكنه يعرفها جيدا بالصوت والصورة، " فمن رأى ليس كمن سمع.." فكيف لمن عاش التجربة.
من سجن إلى سجن، ومن جلاد إلى جلاد، يتغير الدال باستمرار لمدلول واحد لا يتغير اسمه العذاب. لو يعلم أن صحبة أولئك ستفتح عليه أبواب الجحيم وتجر عليه كل هذه الويلات لما سمح لنفسه يوما بأن يلتفت إليهم، أيعقل أن جولة في الشارع مع شخص مشبوه لا يتوفر أدنى دليل على تواطئه تنتهي بك هذه النهاية المحزنة؟ مرة أخرى لم يحسبها جيدا، ولم يقدر عواقب ما أقدم عليه. في مختلف الأحوال ما كان.. كان. لقد سقط والسلام، لكن لم الإصرار على السقوط وحيدا، لم لا يعترف على الجميع ويريح جلده؟ أم أنه من النوع الذي تهمه راحة الضمير، وشعبة ".. ولو طارت عنزة". ثم بماذا يعترف؟ أيعترف ظلما وبهتانا؟ أم.....
لا تحزن .. إن الله معك، زمن الظلمة وإن طال قصير جدا، لا بد أن تسطع شمس الحقيقة يوما وفي الصباح الباكر.