آمال عوّاد رضوان ترصُدُ الحالةَ الثّقافيّةَ في فلسطين١٩٤٨
حيفا لنا تلتقي عضو هيئة تحريرها ،الشاعرة الفلسطينية آمال عواد رضوان
حوار: رئيس التحرير
نشر في الثلثاء ٢ كانون الأول (ديسمبر) ٢٠٠٨
آمال عواد رضوان شاعرة وأديبة فلسطينية مميزة، ذات طاقة فنية وأدبية وثقافية وإنسانية لافتة، تنتمي إلى فلسطين الأخضر، ما قبله وما بعده في الألوان، وتنتمي إلى الجوهر والعمق في الأصالة والقيمة ، وتنتمي إلى الصفاء والنقاء في النبع والروافد، وتنتمي إلى الوضوح والقوة والزخم في الأصوات، وهي من عدد قليل لا زال على هدف الرسالة وغايتها في شرف وأمانة الكلمة، وهي ذات أفنان في العطاء، والبذل المستمر الخالص، في أدبها نكهة فلسطين بساحلها، وصلابة فلسطين بشموخ جبالها، واتساع فلسطين بامتداد عمقها، تلتقيها (حيفا لنا) وهي احد فرسانها للوقوف على طبيعة التجربة، وطليعة الخبر الصادق فيما حول المكان والزمان، مرتكزة إلى كل هذا الرّصيد اللافت.
في السّنواتِ العشْرِ الأخيرةِ صارَ هناكَ توجُّهٌ مغايرٌ بالنّسبةِ للمثقّفِ في زنزانة رقم 48، ألا وهي النّشر الإكترونيِّ والتّواصل مع العالم الخارجي مِن خلالِ هذه الشّبكةِ، وهذا هو المُتنفَّسُ الوحيدُ لتوصيل كتاباتِهِ وإبداعاتِهِ على أشكالِها، فيما لو كانَ مُطَّلِعًا على تكنولوجيا الاتّصال، ومَن يجهلُ فهو يظلُّ رهينَ زنزاتِهِ وقوقعتِه، كما أنّ هناكَ وبكلِّ أسفٍ أناسًا يعتلونَ موجةَ الأدبِ والشّبكةِ، وينشرونَ بكثافةٍ مُسيئة للواقعِ الثّقافيّ!!
كلُّ المصطلحاتِ الّتي أُطلِقتْ على أجزائِنا، ونُردّدُها رغمَ رفْضِنا لها هو جزءٌ مِن التّطبيعِ، فالحاجزُ العسكريُّ صارَ اسمُهُ معبرًا، والخطُّ الأخضرُ، وعربُ الدّاخل، وعرب 48، وعرب 67، كلُّ هذهِ المُسمّياتِ انطلَتْ علينا وعلى العالمِ العربيِّ بأكملِهِ بتطبيعاتِها، دون أن نَعيها أو نحاربَها، حتّى صارتْ جزءًا مِنَ الواقعِ بكلِّ أسفٍ!
وأوجّهُ سؤالي للعالمِ العربيِّ والإسلاميِّ الّذي يقاطعُ شعبَنا الفلسطينيَّ، ويتّهمُهُ بالرّضوخِ لعمليّةِ التّطبيع:
ما الّذي يدفعُ بمنظّمةِ التّحريرِ الفلسطينيّةِ، وبالتّنسيقِ مع الدّولِ العربيّةِ، للنّشرِ مؤخّرًا في الصّحفِ العبريّةِ إعلانًا، فيه ترويجٌ للمبادرةِ العربيّةِ للسّلامِ الّتي أقرّتْها قمّةُ بيروت، ويرعاها الملكُ عبد الله بن عبد العزيز، والمُقَرّة من 22 دولةً عربيّةً؟ أليسَ هذا الأمرُ مدعاةً للاستغرابِ والدّهشةِ؟
حيفا لنا :كيفَ اكتشفتِ منطقةَ الشّعرِ عندَكِ؟ وما هي أبرز ملامح تجربتكِ الخاصّةِ كما تصفينَها؟
منذُ المرحلةِ الابتدائيّةِ الأولى ساقتْني أذني إلى عِشقِ فيروز بهيبتِها، وما كنتُ أدركُ بَعدُ معاني ما أسمعُهُ وأردّدُهُ مِن كلماتِها، وما دريْتُ أنّ هذا شعرًا، لكن تذوّقي لعذوبةِ الكلمةِ المسموعةِ، دفعَ بي للبحثِ عن كلماتِها المغنّاةِ، ومِن ثمَّ تفتّحتْ عيونُ قلبي على عشقِ جبران وكتاباتِهِ، وكانتْ هذه الشّخصيّةَ الشّاعريّةَ الأولى الّتي استحوذتْ بصفاءِ حرْفِها ونقاءِ عشقِها على خيالِ طفلةٍ، جعلَتْ تنسجُ بإبرةِ الحلمِ الطّفوليِّ تفاصيلَ ميّ المحبوبةِ المتجسّدةِ بالطّبيعةِ، ومنذُها تشكّلتْ مبادئُ معجمي اللّغويِّ الأوّلِ مِن أغاني فيروز الرّحبانيّةِ والجبرانيّة، وقد كنتُ أحاولُ محاكاتَها، لكن حيائي كانَ يدفعُني لتمزيقِ ما أخربشُهُ!
أبرزُ ملامحِ تجربتي الخاصّةِ مفعمةٌ بأسلوبٍ خاصٍّ يميّزُهُ، وبرؤيتي الانتقائيّةِ لمشاعر إنسانيّةٍ عفيفةٍ وناضجةٍ عميقةِ الإيماءاتِ، وبخطابٍ شعريٍّ يتّسمُ بحنانٍ فيّاضٍ ولواعج شجونٍ تتدفّقُ لوعةً، أتتْ على سجيّتِها دونَ توجيهٍ مقصودٍ، فتجلّى هذا الطّرحُ الحسِّيُّ بعذوبةِ مضمونِهِ وصفاءِ سياقِهِ، مستندًا على دقّةِ التّصويرِ ورقّةِ التّعبيرِ، إضافةً إلى انسيابيّةِ لغتِهِ الوجدانيّةِ البسيطةِ، والزّاخرةِ بدلالاتِها المجازيّةِ، كأنّما فتيلُ هذه اللّغةِ يُؤجّجُ بركانَ نفسٍ هامدةٍ، ليُطهّرَها بصياغةٍ شعريّةٍ، تتركُ بصمةَ نبْضِها في نفسي أوّلاً، ومن ثمَّ في نفوسِ ذُوّاقِها!
- حيفا لنا :ماذا تعني لكِ تجربةُ الإصدارِ الشّعريِّ؟ وأيُّ الإصداراتِ تلكَ الّتي تجدينَها أوصلتْ رسالتَكِ بدقّةٍ!
التّجربةُ بمثابةِ مغامرةٍ إنْ لم تكنْ مقامرةً، فإمّا أن تكونَ وتثبتَ حضورَكَ ومصداقيّتَكَ، وإمّا أن تكونَ عرضةً للانكسارِ والنّقدِ والاستهزاءِ ليسَ ثقافيًّا فحسب، وقد يُبهرُكَ الضّوءُ فيُعميكَ، خاصّةً، وإن كنتَ تهابُ اللّغةَ، وتُعاقرُ حرفَكَ في خارجِ بلدِكَ وفي ظلالِ اسمٍ مستعارٍ، يَنشرُ مِن خلفِ شاشةِ حاسوبٍ تُحسُّ بوَجَلِكَ وهمْسِكَ! وقد حقّقتْ نصوصُ "سحر الكلمات" تجاوبًا وتفاعلاً إيجابيًّا مع قرّائِها، ولفتتِ انتباهَ بعضِ نقّادٍ أشادوا بتلكَ الموهبةِ المتخفّيةِ، مطالبينَ إيّاها بالبوحِ بهويّتِها! وهكذا كانَ الإصدارُ الشّعريُّ الأوّل "بسمةٌ لوزيّةٌ تتوهّجُ"، بعدَ مرورِ ثلاث سنين مِنَ التّخفّي!
"بسمةٌ لوزيّةٌ تتوهّجُ" كانتِ الخفقةُ الأولى الّتي أنبضُها في قلوبِ مَن كنتُ أخشاهُم في بلدي الدّاخل، مِن لغويّين ومدرّسي لغةٍ عربيّةٍ في الجامعات، أهديتُهم كتابي مِن خلفِ ستارٍ كثيفٍ، وبقيتُ في ترقّبٍ وتوتّرٍ مِن ردودِ فعلٍ مجهولةِ المعالم، وفوجئتُ بدعوةِ منتدى الباديةِ في الكرملِ حيفا، ومِن ثمّ بدعوة أخرى من المنتدى الثّقافيِّ في النّاصرةِ، تناولوا الكتابَ بدراساتٍ أكاديميّةٍ وبموضوعيّةٍ تامّةٍ، مِن حيث الشّكل والمضمون والأسلوب والشّاعريّة والتقنيّات، والتّحديث والتّكثيف اللّغويّ والصّور المبتكرة والبلاغة! حقيقةً، أنَّ الإصدارَ الأوّلَ غمسَ حضوري ووجودي برهبةِ اللّغةِ، وهيبةِ المسؤوليّةِ الملقاة على كاهلي، وكيفيّةِ التّخطّي وتحسينِ أدواتي الفنّيّةِ والشّعريّةِ!
حيفا لنا : أنتِ مِن المتحمّسينَ لمسألةِ إصداراتٍ مشتركةٍ مع زملاء، تحملُ أبعادَ تسجيلِ ردودٍ أو أنطولوجيا محدودة، مثلما أصدرتِ عن "الإشراقةِ المجنّحةِ"، و"نوارس من البحر البعيد القريب"، و "درويش بعيون فلسطينية خضراء"، ترى ما هو المثير في هذه التّجربةِ؟
المسألةُ لا تكمنُ في تحمّسي لإصداراتٍ مشتركةٍ بقدرِ تحمّسي للفكرةِ المطروحةِ ولِما تهدفُ، فمثلاً، فكرةُ الإشراقة المجنّحة تتحدّثُ عن الومضةِ الأولى للقصيدةِ الشّعريّةِ، وكيفَ تتأتّى فيُجسّدُها الشّاعرُ، وقد قدّمَ لها د. شاربل داغر من لبنان، وضمّت 118 شهادة شاعر وشاعرة مِن عالمنا العربيِّ والمهجر، أمّا كتاب "نوارس من البحر البعيد القريب"، ففكرةُ الكتاب تُسلّطُ الضّوءَ على المشهدِ الشّعريِّ الجديد في فلسطين 1948، ذاكَ الجزء المعَتّم عليه والمهمَّشِ عربيًّا، وعدم وصولِ نتاجاتِنا المحلّيّةِ إلى العالمِ العربيِّ، فاختصّتِ الفكرةُ بشاعراتٍ وشعراءَ مِن مواليد عام 1950 فصاعدًا، وقد ضمَّ الكتابُ 49 شاعرًا وشاعرة!
أمّا الكتابُ "درويش بعيون فلسطينيّةٍ خضراء"، فقد تبلورتِ الفكرةُ حينَ اتّصل د. خليل عودة من جامعة النجاح بنابلس، يولّيني مهمّةَ تجميعِ نصوصٍ مِن شعراءَ وكتّاب يكتبون عن درويش، لإصدارِها وتوثيقِها في مكتبةِ جامعةِ النّجاحِ الوطنيّةِ بنابلس، وقد تفاعلَ كلُّ مَن اتّصلتُ بهم وأرسلوا موادّهم، وبسببِ الكمّ الكبيرِ والزّخمِ الّذي وصلَني، كانَ لا بدّ مِن إصدارِ الموادِّ المجمّعةِ في كتابٍ كبيرٍ، ومِن هنا تحقّقَ هدفان، أوّلُهما إنصافُ الكُتّابِ، وثانيهُما إكرامُ محمود درويش في مماتِه! المثيرُ في هذه التّجاربِ أنّكَ تخرجُ مِن أناكَ وأنانيّتِك، ومِن لغةِ الفردِ إلى لغةِ المجموع، وتحاولُ أن تلعبَ دورًا أكبر، بل وتساهمُ في خدمةِ وتوثيق ثقافتِكَ المحلّيّةَ والعربيّةَ، فالعملُ جدًّا مرهقٌ وجادٌّ، وفيه مسؤوليّة وتذنيبٌ وتحَدٍّ، لكنّك تخرجُ برضًى عارمٍ لا يقلُّ أهمّيّةً عن رضاكَ بإصدارِكَ الشّعريّ.
حيفا لنا : ما رأيكِ بالمستوى الحاليِّ للثّقافةِ العربيّةِ في فلسطين الخطّ الأخضر؟ وما رأيكِ بأدواتِ التّوصيلِ والتّواصلِ الحاليّةِ؟
رغمَ العوزِ والحاجةِ وشحّةِ المصادرِ، ورغمَ العزلةِ المفروضةِ منذُ أكثر مِن ستّين عامًا على هذا الجزءِ المبتورِ مِن الجسمِ الكلّيِّ جغرافيًّا، إلاّ أنّ ثقافتَنا تمكّنتْ مِن التّصدّي والتّشكّلِ في معظمِ أروقتِها بلغةٍ راقيةٍ وتعبيرٍ فنّيٍّ جميلٍ، ولا زالتِ القافلةُ تَمضي قُدُمًا، وإن كانتْ بدوافعَ وهمَمٍ فرديّةٍ، وهنا تكمنُ مخاطرُ الآتي، كيفَ للجهودِ الفرديّةِ البنّاءةِ هذهِ أن تصمدَ في وجهِ أعاصير هدّامة تحاربُ ثقافتَنا ومرآةَ شعبِنا؟
كانتْ هناكَ أُطُر مِن اتّحاداتِ أدباء وروابط مثقّفين وتجمّعات، تجْمعُ مُثقفّينا وتُؤازرُهم وتُساندُهم، على اعتبار أنّ يدَ اللهِ معَ الجماعةِ، لكن لأسبابٍ لا أدريها تفكّكتْ هذه الأطر فِعليًّا، وما تبقّى منها إلاّ أسماءَها الشّكليّةَ والوهميّة، ومنذُ التّسعينات و"الطّاسة ضايعة"، والهويّةُ الثّقافيّةُ تتقاذفُها أكفُّ بيضاء وسوداء، والأجيالُ الشّابّةُ مِن الأدباءِ المحلّيّين لا تعرفُ بعضَها، ولا يجمعُهم إطارٌ يَعملُ على تشجيعِهم ودعمِهم وتَبَنّي إبداعاتِهم، ونَشْرِها محلّيًّا وعربيًّا وعالميًّا، والوصول بهم إلى برِّ الأمانِ مِن خلالِ دورِ نشرٍ بارزةٍ ومُموّلةٍ، كذلك ليسَ هناكَ مِن ندواتٍ فكريّةٍ ونشاطاتٍ ثقافيّةٍ تدعوهُم إليها رغمَ التّعطّشِ، وما نراهُ في السّاحةِ الأدبيّةِ، ليسَ إلاّ جهودًا فرديّةً قد تستمرُّ وقد تُحبَطُ، وذلكَ منوطٌ بالنّفَسِ الطّويلِ لهذه الأفرادِ، ومدى قُدرتهم على الصّمودِ والاحتمال!
في السّنواتِ العشْرِ الأخيرةِ صارَ هناكَ توجُّهٌ مغايرٌ بالنّسبةِ للمثقّفِ في زنزانة رقم 48، ألا وهي النّشر الإكترونيِّ والتّواصل مع العالم الخارجي مِن خلالِ هذه الشّبكةِ، وهذا هو المُتنفَّسُ الوحيدُ لتوصيل كتاباتِهِ وإبداعاتِهِ على أشكالِها، فيما لو كانَ مُطَّلِعًا على تكنولوجيا الاتّصال، ومَن يجهلُ فهو يظلُّ رهينَ زنزاتِهِ وقوقعتِه، كما أنّ هناكَ وبكلِّ أسفٍ أناسًا يعتلونَ موجةَ الأدبِ والشّبكةِ، وينشرونَ بكثافةٍ مُسيئة للواقعِ الثّقافيّ!
حيفا لنا : حتّى ما قبلَ قيامِ السّلطةِ الفلسطينيّةِ في الضّفّةِ وغزّة على جزءٍ من فلسطين، كانَ عنوانُ الرّسالةِ الأدبيّةِ المقاومة في الدّاخلِ الأخضر، هي إسنادَ نضالِ الشّعبِ الفلسطينيِّ هناك، والمطالبةَ بحقوقِ الشّعبِ الفلسطينيِّ في الخطِّ الأخضر، على أساس "أصحاب البلاد الأصليّة"، ترى، ما هي العناوين هذه الأيّام مع التمزّقِ الحاصلِ في الوضعِ الفلسطينيِّ؟
القضيّةُ الفلسطينيّةُ كانتْ ولا زالتْ قائمةً، تعلو على كلّ الأوضاعِ المتغيّرةِ والمتحوّرةِ بفعلِ الإنسانِ وهيمنةِ الأحزابِ، وعلى التّقلّباتِ والانقلاباتِ والتّمزّقاتِ الدّاخليّةِ الآنيّةِ، ونحن نؤمنُ أنّ هذهِ الأزمةَ ستعبرُ لا محالة، وستلتئمُ الجراحُ الممزّقةُ طالما أنّنا نوقن وبحقٍّ، أنّنا نتكاملُ على الأقلِّ ثقافيًّا إن لم يكن جغرافيًّا، وعنوانُ الرّسالةِ الأدبيّةِ ثابتٌ لا يتزعزعُ، هو المقاومةُ والنّضالُ والتّكاتفُ مِن أجلِ الوحدةِ واتّحادِ الأجزاءِ بالكلِّ، وإن اختلفَ الأسلوبُ وتغيّرَ، لأنّ مهمّةَ الأدبِ أن يُحافظَ على الهويّةِ الثّقافيّةِ مِن الاندثارِ، والّتي هيَ جزءٌ مِن هويّةِ الوُجود!
- حيفا لنا : ثمّةَ مَن يرى أنّ جزءًا مِن حكايةِ التّرجمةِ عن العبريّةِ هو ممرٌّ تطبيعيٌّ، لكن السّؤال، هل هنالكَ ترجمةٌ مضادّةُ الاتّجاهِ؟ وهل خدمتْ هدفَها برأيِكِ إنْ وُجدَتْ!؟