عند نهاية الحرب العالمية الثانية و انتصار الحلفاء على دول المحور، شرعت فرنسا في إصلاح ما دمرته الحرب الضروس فقامت باستدعاء الآلاف من مواطني المستعمرات للعمل لديها و كان من ضمن هذه الأفواج المتنقلة شاب مغربي يدعى الحسين بن المدني الذي تم ترحيله في صيف سنة1949 رفقة عدد من المهاجرين المغاربة إلى التراب الفرنسي على متن السفينة<< جان دارك>> التي وصلت إلى مرفأ رووين العاصمة القديمة لنورمانديا في ليلة شديدة الحلكة بسبب الضباب الكثيف و من هناك نقلوا على متن الشاحنات و عربات القطار إلى مدينة ميلهوز.
أيام قليلة بعد وصوله، حصل الحسين على سكن مشترك مع مجموعة من العمال المنحدرين من نواحي دمنات مثله ثم باشر عمله بمناجم المنطقة حيث يستخرج الحديد و البوتاسيوم. كان العمل مملا مرهقا.
يقضي الحسين ساعات مديدة في باطن الأرض يحفر. يعود في المساء إلى غرفته مكدودا لا يقوى على الحركة، وبعد أن يستريح و يتناول عشاءه البسيط، ينفس عن نفسه باسترجاع ذكريات جميلة عن حياته الماضية مع شريكيه في الغرفة. يحدثهما عن مسقط رأسه و مسرح طفولته و شبابه، تلك القرية الرابضة على سفوح الأطلس الكبير و المجاورة لمدينة دمنات، و كيف كان أبوه مكلفا بإحدى الزوايا الدينية هناك و يمارس الفلاحة السقوية بطرق تقليدية لم تتغير منذ قرون عديدة. يتذكر طفولته السعيدة في الكتاب الذي قضى به بضع سنين، يحكي لهما عن ممارسته للتجارة مع أحد أعمامه عندما اشتد عوده، حيث كانا يشتريان السلع من مدينة مراكش ثم ينقلانها على ظهر البغال و يعيدان بيعها بالقرى و الأسواق المجاورة لدمنات. لا يمل الحسين من الحديث عن موطنه الأصلي. يروي لرفيقيه عن الدوافع و المراحل التي قطعها للتحول من التجارة إلى الاغتراب في بلاد المهجر، فتنثال الكلمات من فمه شجية حزينة، قال لهما: في أحد الأيام التقطت أذني أحاديث لقرويين عن مغاربة يهجرون إلى فرنسا من أجل العمل هناك و يربحون أموالا كثيرة. في البداية لم أعر الأمر اهتماما لكن أسبوعا بعد ذلك و كنت في جولة بأحد الأسواق القروية فسمعت البراح يرفع عقيرته بالصياح، لأول وهلة لم أفهم كلامه، اقتربت منه و استفسرت الناس المجتمعين حوله. علمت أن السلطات تبحث عن شبان بالغين سليمين من الأمراض و يرغبون بالعمل في فرنسا. سيحصلون على المسكن المناسب و الأجر الذي يمكنهم ليس فقط من العيش هناك بل الادخار أيضا. حينذاك أحسست بدقات قلبي تتسارع و برغبة قوية في الهجرة. و لكني لم أغادر مكاني توا بل بقيت واقفا حائرا أفكر. تذكرت معاملة الجنود الفرنسيين لسكان قريتي حين تأخروا في دفع ضرائب. أعينهم الزرقاء القاسية تخيفني، هل أستطيع العيش بينهم بأمان؟ مرت أمام عيني صور نسائهم، قامات ممشوقة و لحوم متماسكة بضة لا أثر للوشم فيها، فزال التردد و لم أنتظر حتى أستشير عائلتي بل ذهبت مباشرة إلى مكتب التسجيل حيث استجيب لرغبتي و طلب مني الإتيان بأوراق إدارية من عند القائد تثبت هويتي، هرولت إلى الزاوية أطلب مساعدة أبي. أصيب أبي بحيرة كبيرة و لكنه لما رأى إصراري و رغبتي القوية في السفر ساعدني. أما أمي فقد انتحبت كثيرا ثم مسحت دموعها و كضمت ألمها حتى لا تزيد من عذابي و تستعر نفسي هياجا، فهي تدرك مدى حبي و تعلقي بهم، كانت تشعر أني أتألم لفراقهم و لكن رغبتي في التحكم بمصيري و الرقي بحياتي كانت أقوى. بعد استيفاء الإجراءات القانونية تم نقلي على متن شاحنة إلى مدينة الدار البيضاء. لقد كنتما رفاقي في الرحلة. تتذكران ذلك الفندق الذي مكثنا به عدة أيام. ماذا أقول لكما؟ في الدار البيضاء كانت دهشتي كبيرة لما رأيت تلك الحركة الدائبة، و تلك المباني الفخمة أما هنا بفرنسا فقد كانت دهشتي أكبر. اندهشت لأناقة الفرنسيين خصوصا الإناث منهم، تلك الأجسام الشديدة البياض التي تظهرها ملابسهن الأنيقة و الخفيفة في غالب الأحيان، آه من هؤلاء الفرنسيات ! لم يكن يخجلن من تعرية الأكتاف و الصدور. فضحك رفيقاه من الملاحظة الجميلة و عقب عليه أحدهما: "ما يثيرني في هذه المدينة هو نهر " إيل" العظيم الذي يخترقها، لو كان عندنا هناك بدمنات مثله لتغيرت أمور كثيرة".
في العطل و نهايات الأسبوع يغادر الحسين ذلك الحي الهامشي حيث يلبس كسوته الرمادية المفضلة التي اشتراها من سوق الملابس المستعملة ثم يقوم بجولة في أحياء المدينة، رغم انتقاله إلى بيئة أوربية، فإن ملامحه المغربية لم تختف. كان يدرك بقوة أنه غريب بين قوم مختلفين، و لكن جمالية المكان و أناقة الناس كانت تبهره و تخفف من لوعته، فالمدينة ملئى بالبنايات التاريخية الفخمة و منها على الخصوص فندق المدينة الذي انشئ في القرن السادس عشر. كان الحسين لا يمل من ذرع تلك الشوارع و التطلع إلى الرسومات و النقوش و الأفاريز و الأعمدة، لا يعرف قراءة إلا اللغة العربية و أعدادها و لكنه بعد شهور من وصوله استطاع استيعاب كثير من ألفاظ اللغة الفرنسية و تمكن من التعامل و التواصل مع السكان المحليين، و قد اعتاد في جولاته تلك الجلوس بأحد المقاهي المحاذية لمحطة الحافلة التي ستقله إلى مقر سكناه. كانت واسعة تعمل بها عدة نادلات و رغم ذلك فقد كان يملئ الدخان الكثيف للسجائر و الغليونات جوها بسديم ثقيل و تضرب أحيانا نتف الثلج زجاج نوافذها فلا يمل الحسين من التطلع إليها و لكن حيوية النادلات كانت تثيره و تشد نظره خصوصا خفة تلك الفارعة الطول مثله المرقطة الوجه التي كانت تسرع إلى مجلسه كلما وصل، و تلبي طلباته فتحمل له بسرعة المشروب الغازي الذي يطلب. تبتسم له و تبادله بضع كلمات. مع مرور الأيام و الأسابيع عرفت أنه مهاجر مغربي من إحدى قرى الأطلس الكبير و يعمل بمناجم الحديد و البوتاس المجاورة للمدينة. أما هي فكانت من أصول بولونية، ترعرعت في إحدى الضيعات الكبيرة حيث كان والداها يعملان. لما بلغت العشرين هاجرت إلى مدينة ميلهوز بحثا عن أفق جديد، مارست عدة مهن قبل أن تستقر بهذا المقهى الكبير. كانت كارولين كوستوفيتش و هذا هو اسمها قوية البنية، شقراء اللون، ذات جمال متوسط، تدخن بشراهة و تشرب الخمر باستمرار. في إحدى صباحات الأحد و بعد تعارف تعدى النصف سنة طلبت كارولين من الحسين أن يلتقي بها بعد الرابعة زوالا بمقهى معروفة. لبى الطلب بسرور. لم يسبق له أن عرف الحب أو مارسه. في القرية التي نشأ فيها، كان قلبه يهفو إلى بعض الجميلات، يتبادل معهن بضع كلمات إذا سنحت الفرصة و لكن التقاليد القبلية لم تكن تسمح بأكثر من ذلك. فهذه البيئة الجبلية حيث جل الناس أميين كانت تفرض على النساء وضع اللثام على الوجه و تبالغ في تقييم الشرف. أما كارولين فشيء مختلف عن ذلك. معها يمكن التجوال حيث يشاء دون خوف أو وجل. يمكنه كذلك التعبير عن عواطفه بكل حرية. لقد أثارت كارولين غرائزه الأكثر عمقا. أصبح الحسين يتجول معها متأبطا ذراعها و في بعض الأحيان يقبلها في الشارع العمومي دون خجل أو احتراس من رقيب محتمل، أصبح يزورها في شقتها المكونة من غرفة و مطبخ بل إنه أثناء العطل يقضي معها الليالي في حميمية تامة، سمع من بعض معارفه أن الزواج من فرنسية مربح. استقرار في العمل و السكن و تحسن في الأجر و التعويضات و إمكانية متاحة للحصول على الجنسية الفرنسية. في إحدى الليالي و كانا ممددين على سريرها الحديدي، اقترحت عليه كارولين الزواج. قالت له: ً أنت مسلم و أنا مسيحية و لكننا معا نؤمن بإلاه واحد، زد على ذلك أن الحب لا يعرف الحدود. لقد ألفتك و أحببتك و أصبحت لا أطيق فراقك و أنا متأكدة أنك تبادلني نفس المشاعر. لذلك أرى أن أحسن تتويج لعلاقتنا هو الزواج ً. لم يتركها الحسين تكمل حديثها، أخذ رأسها بين راحتي يديه و قبلها قبلة طويلة حارة و عميقة. كان ينتظر هذه اللحظة عدة أسابيع. لم تكن له الجرأة لمفاتحتها في الموضوع. كان يخاف رفضها. و لذلك ظل ينتظر إلى أن جاء الاقتراح من عندها.
تعرف على والديها العجوزين و لاقى منهما ترحيبا. اشترت كارولين أثاثا جديدا لشقتها و كذلك كسوة العرس البيضاء أما هو فذهب عند خياط يهودي من أصل مغربي خاط له كسوة أنيقة تليق بالمقام و بثمن مناسب، شهر بعد ذلك تزوجا مدنيا و أقاما حفلا بسيطا بالمقهى التي تعمل به كارولين. ترك الحسين غرفته و استقر مع كارولين في شقتها.
في الشهور الأولى كانت العلاقة بينهما مثالية شعر فيها الحسين بدفء الحياة الأسرية و ثرائها و ذاق فيها ألوانا من المتع. تأقلم الحسين مع حياة الاغتراب و مع العادات الفرنسية لكن ما أقلقه و جعله يشعر بالمرارة و القنوط هو مبالغة كارولين في شرب الخمر. كانت لا تكف في عملها عن احتساء الكأس تلو الأخرى فتعود إلى شقتها في حالة سكر بين. حاول الحسين ثنيها عن الأمر و إقناعها أن الإدمان على الخمر مضر بصحتها و لكنها رفضت بحدة الاستماع إليه و طلبت منه قبولها كما هي بمحاسنها و مساوئها فانصاع لرغبتها دون احتجاج و لكن مع توالي الأيام و الشهور، ازداد الأمر سوءا و شرعت كارولين تفقد السيطرة على نفسها و أعصابها و تفوه بكلمات بديئة تنتقص بها الحسين معيرة إياه بأصله المغربي و معتبرة المسلمين قوم تخلف. أثار هذا الكلام في نفسية الحسين غضبا كامنا عبر عن نفسه من خلال شرارة العينين و لم يتعداه إلى غير ذلك فالحسين إنسان مهادن مسالم لا يثور و لا يحتج رغم كل ما يكابده من التحرشات ظنا منه أن الأمور ستتحسن مستقبلا و سيتغير منظورها للإسلام بفعل معاشرتها لواحد من أهله و لكن أفكار كارولين بقيت جامدة لا تتطور، يئس الحسين من تحسن حالتها المزاجية فحاول إقناعها أن أفضل الناس عند الله هم أتقاهم و ليس أغناهم و زرعت تلك المحاولة في نفسه شيئا من الأمل و لكن لما بلغه خبر خيانة زوجته له من طرف أحد زملائه بالعمل له صديقة نادلة بنفس المقهى التي تشتغل بها كارولين، أحس بصدره يفور غضبا و ألما و استولى عليه شعور بالعار و اليأس. لم يحاول التأكد من صحة الخبر. كانت حياته العاطفية و الأسرية قد انهارت منذ عدة شهور، و أصبح التفكير في كارولين يثير فيه الأشجان و الأحزان. ندم على ارتباطه بها و لكنه أخفى على كارولين ما يعتمل في نفسه من الصراعات. و في عمق الليل لما انزوى إلى نفسه و هدأت العاصفة، فكر بأن حياته لم تضع تماما. يمكنه إصلاحها و إعادة بنائها هناك بالمغرب بعيدا عن كارولين العنيفة التي لن تغفر له هجرانه إياها و ستحاول الانتقام منه إن بقي بالديار الفرنسية لذلك قرر ترك كل شيء و الفرار بجلده إلى موطنه الأصلي. و هذا ما فعل.
لم يخبر كارولين بما جال بصدره. في أحد الصباحات و كارولين تعمل بالمقهى، قام الحسين بحزم أمتعته. ألقى نظرة أخيرة على الشقة و غادرها بدون رجعة. استقل القطار إلى باريس و من هناك حجز مقعده في طائرة متجهة إلى الدار البيضاء. لم يندم الحسين على تسرعه هذا. كرامته أهم من المال و من أي اعتبار آخر. حتى الشركة التي يعمل بها لم تعلم بالأمر و تنازل لها عن أجرة ذلك الشهر و تعويضات المغادرة. لم يعد ماضيه بفرنسا يهمه، أفقه الآن متجه كليا إلى المغرب. كانت هذه أول زيارة له للوطن المستقل منذ ما ينيف عن سنة. ربما كارولين خلقت له هذه المشاكل بسبب انفصال المغرب عن فرنسا. كانت تكره الفدائيين المغاربة و تعتبرهم إرهابيين. و لكن كل هذا بعيد و هو الآن في وطنه الأم. بهره توسع المدينة و تغير الناس. حتى المغربيات أصبحن يرتدين الزى الأوربي. لا يريد العودة مباشرة إلى قريته. لم يعد يطيق حياة البادية بعد أن ذاق لسنوات طويلة حلاوة المدينة الفرنسية. حتما الدار البيضاء ستكون ملاذا آمنا و إن عاد إليها خاوي الوفاض. سأل عن السوق المركزي للحي المحمدي حيث هشام ابن خال له يعمل بقالا. عثر عليه بعد جهد جهيد، ما زال هشام عازبا يكتري غرفة لوحده بإحدى الدور هناك. عرض على الحسين السكن معه كما اقترح عليه العمل معه في حانوته فقبل. استفسر الحسين عن أحوال عائلته. أختاه ليلى و صفية تزوجتا و أخوه الصغير عبد العظيم مات متأثرا بلسعة عقرب. حزن الحسين كثيرا لفقدان أخيه، غلبته الدموع فانثالت على خديه حارة. رغم ذلك لن يزور أهله في هذه الفترة الحرجة، مرت ثلاثة أشهر و اقترب عيد الأضحى فتذكر الحسين الأجواء الاحتفالية التي ترافق هذه المناسبة و هزه الحنين إلى عائلته فقرر إحياء صلة الرحم و زيارتها بهذه المناسبة، انقطع اتصاله بأهل بلدته منذ ما يناهز ثمان سنوات و هاهي عائلته تستقبله بالأحضان. لم تتغير القرية كثيرا. ازدادت بعض المنازل التي بناها بعض المهاجرين و قدماء المحاربين، تفاجأ كذلك لتغير سحنات بعض معارفه، غزا الشيب رؤوس بعضهم، تجعدت و تغضنت وجوه كثيرين. فكر الحسين. هكذا يحفر الزمان أخاديده. حتما سيجد أهل القرية أني تغيرت و اقتربت من الكهولة. جاء جل أفراد العائلة يهنئونه على عودته و استضافوه بمنازلهم. قضى وقتا طويلا مع والديه يحكي لهما عن أحواله السابقة، تعاطفا معه، قالت له أمه بنبرة حزينة: ًً المهم هو العمل سواء هنا أو هناك. العيب هو أن يبقى الإنسان بدون شغل. انظر إلى أختيك. حظاهما مختلفان. صفية الصغرى أحسن حالا من ليلى الكبرى. فزوج ليلى رجل متهاون لا يحب العمل و إذا وجده فقده بسرعة. إنها تكابد مشانق الفقر و الحرمان و لولا يد المساعدة التي مدها لهما أبوك لفقدت القدرة على الصبر و تركت زوجها يعاني الفجيعة لوحده. أما صفية فزوجها رجل ذكي مجد محب للعمل، يعمل حارس لشركة كبيرة بمدينة المحمدية، مكنه صاحب الشركة من سكن لائق بمقر العمل، ينفق على أختك بقدر ما تيسر، ستلتقيه اليوم أو غدا، فهو في زيارة لأهله بالقرية، فضل ذبح خروف العيد هنا ً.
في العشية، خرج الحسين يتجول لوحده في الحقول المحيطة بالقرية، كانت الشمس تتحرك ببطء نحو الأفق الغربي و السماء مزينة بسحائب رقاق. أما الحقول فكانت تزخر بأشجار اللوز و الجوز و الخوخ. ملأ الحسين صدره من نسيم الحقول العليل و سرح بخياله بعيدا. تذكر السنوات الطويلة التي قضاها في فرنسا؛ لولا حظه التعيس الذي لاقاه مع كارولين السكيرة فأخذت حياته منحا مختلفا، لكان في الوقت الحاضر مستمرا في عمله بالمناجم. داخله شعور بالندم على تسرعه في ترك العمل هناك و لكن أعماقه مازالت تهفو إلى مقام طيب بالمغرب. لم يضع جميع حظوظه. من المحتمل أن يجد عملا لائقا هنا.
في الغد حضر عبد السلام زوج أخته الصغرى صفية. تجاذب مع الحسين أطراف الحديث. لما علم أن الحسين يعمل مساعد بقال عند قريبه، اقترح عليه العمل كحارس لشركة جديدة افتتحت أبوابها مؤخرا بالمحمدية و طلب منه مرافقته هناك عند مغادرة القرية بعد العيد. فكر الحسين أن رفض الاقتراح هو تعبير عن قلة احترام اتجاه زوج أخته، زد على ذلك أن آفاقه الحالية محدودة لذلك رد عليه بالإيجاب. بعد تلك العطلة الممتعة التي قضاها في رحاب قريته و التي لن تتجدد إلا بعد سنوات عديدة، ذهب إلى مدينة المحمدية رفقة أخته الصغرى صفية و زوجها عبد السلام. كانت رحلة جميلة غمره خلالها شعور بالارتياح و التفاؤل.
بعد أيام قلائل من وصوله إلى المحمدية، حصل على الشغل و المسكن. كانت الشركة متخصصة في إنتاج الملابس الجاهزة و تصديرها إلى الخارج. يملكها رجل أعمال لبناني. استطاع الحسين التأقلم مع واقعه الجديد و اكتساب أصدقاء جدد من بين عمال الشركة، كانت المدينة صغيرة تنعشها نسمات البحر و يغلب عليها الطابع الأوربي. تذكره مبانيها بمدينة ميلهوز. في أيام الآحاد، يذهب الحسين إلى الشاطئ إذا كان الجو دافئا أو يقوم بجولة في سوق المدينة القديم للتبضع و إذا اجتاحه شعور بالضيق أو الوحدة يقوم بزيارة صفية التي كانت تصلها أخبار العائلة إما عن طريق الهاتف أو بواسطة الرسائل. هذه الزيارات كانت تفرج من كربه و تحمل إليه نسمة من الاطمئنان و الأمل. خلال إحدى الزيارات، التقى بشابة لطيفة أثارت اهتمامه. كانت بيضاء البشرة لها تقاسيم دقيقة، تتكلم بتأنق و ترتدي زيا عصريا، شعر الحسين بميل نحوها و برغبة عارمة في الارتباط بها و لكنه قمع أحاسيسه و تصرف باحترام زائد أثناء تواجدها، كان يظن أنها تنتمي إلى طبقة عالية ثرية و حتما سترفضه هو الحارس البسيط. بعد ذهابها، استفسر أخته عنها، تفاجأ لما علم أن تلك الفتاة الأنيقة تعمل خادمة بفيلا صاحب المصنع الذي يعمل به عبد السلام، و لكنه أحس بسرور خفي إذ هذا يعني أن تلك الفتاة في متناول اليد، أفصح الحسين لأخته صفية عن رغبته في التعرف أكثر على سعاد و هو اسم تلك الفتاة فشجعته أخته و مدحتها له مخبرة إياه أنها فتاة بسيطة و قنوعة، يتيمة الأم، تعمل منذ نعومة أظافرها في بيت مشغلها الفاسي الأصل و قد ترعرعت بين أحضان أسرته فتأثرت بهم في حركاتهم و سكناتهم، و في نطقهم و ملبسهم. رتبت له أخته موعدا للقاء مع سعاد. كان التعرف سريعا و عميقا. لم يمر إلا أسبوعين حتى ذهب الحسين رفقة أخته صفية و زوجها عبد السلام يخطب سعاد من عند أبيها بنواحي مدينة برشيد. أقيم عرس بسيط وانتقلت العروس من فيلا مستخدمها إلى الشقة البسيطة لزوجها بشركة اللبناني ، لم يندم الحسين أبدا على اختياره. فقد كانت سعاد رغم مظهرها الصارخ آنذاك حيث قصت شعرها و لطخت وجهها بالأصباغ امرأة شريفة تهتم كثيرا بشؤون بيتها و توفر للحسين كل وسائل الراحة في صحته و مرضه و قد رزق منها بأبناء حملوا إليه الإنس و الفرح.
في بعض الأحيان حين يكون الحسين لوحده، يخذله عقله فيسرح بعيدا و يقيم مقارنة رغما عنه بين كارولين و سعاد و لا يدري آيتهما أفضل. كارولين كانت ذات قوام ممشوق و ثقافة واسعة و لكنها كانت تسرف في التدخين و شرب الخمر أما سعاد فهي فتاة قنوعة متسامحة لا يهمها من الدنيا إلا نيل رضا زوجها، لم تجرب تلك المفاسد على الأقل في حدود معرفته بها و لا تدخر جهدا من أجل أن تظهر أسرتها في مستوى مشرف. رغم ابتعاده عن فرنسا منذ سنوات ما زال الحسين متشبثا بالزي الأوربي المكون من كسوة و ربطة عنق مختارة و الذي يكسبه وضاءة و وسامة، لا يتركه حتى في الأعياد الدينية و أيام الجمعة حين يتوجه للمسجد من أجل الصلاة، كما أنه ينسق كلامه باستعمال كلمات فرنسية دقيقة. نفس الشيء بالنسبة لسعاد فهي رغم تركها العمل من عند أهل فاس فإنها تتحدث لهجتهم و تسير على هدى تقاليدهم كأنها فاسية أصلية بينما حقيقة الأمر أنها قضت طفولتها الأولى في بادية بن حريز. رغم ذلك، شكلا ثنائيا ناجحا استطاع أن يتخطى هفوات الزمان و عوائقه..