رشيدة فقري ” في مقام التشوّف .. !
محمد باقي محمد ولأنّنا في ” مهبّ الحنين ” ، بحكم المجتمعيّ الواسم ، تحت ضغط التربية الزميتة ، وإلحاف حسّي الإثم الدينيّ والعيب الاجتماعي ، حُقّ لـ ” رشيدة فقري ” أن تشهق بموعد مع الآخر ، موعد غير مُؤكّد لأنّه في علم الغيب ، لا بالمعنى القدري ، وإنّما لكثرة الكوابح والعوائق في أوجهها المُختلفات ، بحيث يتداخل الاجتماعيّ منها بالموروث الدينيّ في وجهه الأكثر تشدّداً ، ناهيك عن العرف الذي يلبس لبوس هذا الدينيّ , حتى ولو خالفَ النصّ ذاته غير مرة ، ولا يغيب الوجه الاقتصاديّ للعملة في التخفيف عن الغني ، والتشديد على الفقير ، ليُحاصَر هذا الأخير في أحلامه حتى ، بالإضافة إلى إملاقه وبؤسه الماديين ، فإذا تذكّرنا أنّ المُخاطِبَ أنثى , وأنّ المُخاطَبَ ذكر ، وأنّ المنظومة الذهنيّة التي تظلّ الجميع ذكوريّة بطريركيّة ، أقلّ ما توسم به هو الفظاظة ، أدركنا فداحة الخسران في حلم الـ ” فقري ” ، وأدركنا أسباب تلجلج اللغة عند الغرغرة بدل التعبير الواضح الواثق ممّا يريد ، فلا يتبقى لها إلاّ اللجوء إلى عالم الأمنيات في الاشتغال الرغبويّ على حروف اسمها ، ما يُكسبه الرغبة والتشوّف والهيف والدلال والقصيد كمُرادف للجمال والجلال ، ويعيدنا إلى عزيز الذكرى مع قامة سامقة غادرتنا منذ أمد ، ذلك أنّ الدرويش محمود كما نعلم جميعاً اشتغل على حروف اسمه في تحليل شخصه ، ثمّ تتجرأ الـ ” فقري ” على صريح الرغبة الموغلة في الدم والشرايين والأعصاب والأحاسيس ، لتنتهي – في الخواتيم – إلى المفتوح انفتاح الحياتي غير المُتحقّق في صبواته !
ولأنّ الـ ” فقري ” مدركة لماهية الشعر شكلاً ، نهضت الصورة بدورها كعمود فقريّ في بناء القصيدة ، فتأنسن الجامد كما في حالة ” الغيب ” المطلّ من شرفاته ، وأضحى للقلب جدار ، وتماهى الإنسانيّ بغير المُؤنسن ، فأضحى للكبرياء صلة ما معنوية بورقة التوت ، ثمّ أنّ قصيدة النثر تستدعي غريب الصور والتراكيب ، ولذا وقعنا على شهيق موعد يتدلى من شرفة الغيب ، كما تستدعي الاشتغال على القضايا الكبرى على مُستوى المضامين ، فهل ثمّة ما هو أهمّ من علاقة الأنثى بالذكر !؟ أليس احتدام العالم قائماً على صوى وتداعيات تلك العلاقة , في ارتباكها وتعثّرها .. إحجامها وإقدامها .. نجاحها أو إخفاقها ، واللعب على النقائض بالابتداء بمحض أنثى في إفرادها ، ومحض ذكر في إفراده !؟ لكنّ النمذجة تحيل هذه المسألة التي تبدو صغيرة واعتيادية في ظاهرها إلى قضيّة مركزيّة كبرى ، إذْ يصعب الحديث عن سعادة الإنسان من غير الحبّ ، وسعادة الإنسان – من كل بدّ – أحد المقاصد الكبرى في الحياة !
صحيح أن ليس ثمّة غريب الكلام أو وحشيه في سياقات الـ ” فقري ” ، بيد أنّ اللغة في السياق الذي أدرجتها الشاعرة فيه ، ولطبيعة في الموضوع ذاته ، اكتسبت وهجاً وألقاً ، ذلك أنّنا نزعم بأنّ كلّ قارىء سيسبغ على المتن أحاسيسه ، المُستمدّة من تجربته الشخصيّة في هذا الجانب ، وهكذا سنكون أمام آلاف القراءات ، التي تحيل إلى آلاف النصوص المُتوالدة من النصّ الأصلي ، ما يشي بذكاء في التناول مادة وأسلوباً !
وها هو الموضوع غير المُنتهي إلى حلوله المرضيات يذهب في نهاياته جهات سؤال مُمرض ومُرمض ، ينتمي إلى مقام التشوف والتشهّي ، ويحمل شيئاً من التسرّي ، فلا يغادر خانة التفاؤل , المدرك لدور الأدب ، الذي يعي تناقض الحياة ذاتها ، ويعي – بالتالي – وظيفته في الاشتغال على الناس ، وذلك لإقناعهم بأنّها – على تناقضها – تستحق أن تعاش ، فسلاماً للـ ” فقري ” في صرختها الإنسانيّة هذه ، وسلاماً للحياة في أوجهها المختلفات ، وسلاماً للحب مقاماً للنفس العزلاء ، يُكسب المتن المغزى والجدوى بآن ، فتتحصّل القصيدة – إذاك – على شرف تشكيل نقطة تقاطع وبؤرة تفجير بآن ، ما اقتضى التنويه !