شتاء لعينيها
إلى كنعانية
عبد الحميد شوقي
شدتني ضفيرتاها .. لم أبصر غير ارتفاع الموج .. غير شذى من ضوء بعيد .. كنت أقود
سفينتي وقد ضيعت آخر نجمة للوصول .. في أعماقي لم أسمع غير صخب الاحتفالات ..
حضارة تنهض من رمادها .. ترقص على حدود التقاطع بين الصمت والموت .. في دمي
حفيف قصيدة لم تكتمل .. يأتيني صوتها ضاجا بالحياة .. من شبابيك التواريخ القديمة
أوقظها من سبات الأساطير .. أسمع صوتها كعصفورة برية تحمل بعض ما استطاعت
التقاطه من قرنفل ومن بهارات لحريق الرغبة .. لم أذهب كعادتي للنوم .. كان آخر
البحارة الذي اصطحبوني في رحلة اللاعودة يغادر السفينة هاربا من قدر الأسرار ..
مرتْ على قلبي آلاف التفاصيل .. وظلت قصيدتي-الأنثى متمنعة .. بين ارتفاعات الأسوار
ونقوش المعابد وضحكات الراقصات في ساحات مدينة الإله-الشمس .. كنت أبحث عن خفقة
ضائعة وانثناءة لجسد الحقيقة المغري .. لم أصدق صورني في عينيها .. كنت نرسيس
وكانت الماء .. كنت المصلوب على جبل الأولمب وكانت أفروديت التي افترشت كبدي
كي تنال من زيوس سيد السماء .. عندما غادرت مرفأ الغرب على ساحل مدينة الفلفل ..كانت
آخر الكلمات توشوش في وجداني : أيها الهزار .. ستأكلك ضفائر النهار ..!! وانطفأتْ
أمام أعيني آخر أضواء ساحل الأمازيغ .. كنت أقود سفينتي في اتجاه الليل المضيء .. قبل الأمس
حكيت لصبايا الأرز الأطلسي ما سأحمله من شعر في رحلتي إلى عنفوان الفوضى .. كنَّ ينظرن إلي
بخفر عفوي وعلى أوشامهن يولد أول الكلام ويموت آخر البوح .. شربت من الخمر ما
يكفي لأقول للبحر : ابتلعني .. فُلْكي معَدة وأشرعتي منشورة .. وفي القلب حقول لأناشيد
الحياة .. على الساحل الفنيقي رست سفينتي .. دخلت حانة كنعانية لأحتسي ملاحم بأكملها
وأغازل عازفة شقراء تلعب على الهارْب تحت شفق مذهب .. كانت تعلم أنني جئت
بحثا عن شتاء آخر يولد من شفتيها .. وعن مطر يشاغب في عينيها .. لم تكلمني ..ظلت
تعزف ..وظللت أشرب .. وكان الرواد يغادرون الحانة واحدا تلو الآخر .. قلت
لها : من أنت ؟ .. قالت نغماتها : أنا النهار الهارب من جفنيك ..! قلت : أين أنام ؟
أجابني صمتها : علقْ أرجوحتك تحت أشجار المستحيل .. ونمْ .. !!
لم أنم .. كنت أهيئ لعينيها شتاء لولادة النهار .. !!
30 أبريل 09