قصة قصيرة
شيء يشبه التحذير
يشتد الصهيل ويكبر ، فيختلج المدى بين الأنياب المطاطية التي تلتهم الإسفلت بشراهة. تمضي الدقائق الأولى بطيئة وكأنها حشرجة محتضر ، تجتر الحرارة الخانقة والنظرات المحايدة التائهة قبل أن تقذفها في الجو المغبر وعلى الوجوه المعروقة والعيون القلقة على شكل ضباب كثيف يحاصر الأرواح أو ضيقا ينفجر من العيون والقسمات ، ويكتسح الأجساد المتراصة ، يكتسح الأرضية الحديدية قبل أن يخرج من النوافذ المفتوحة أو المتكسرة أو شقوق الأبواب الأوتوماتيكية، ويصرخ الجابي :
-" يا الله عفاك... زيد لقدام !"
أشرد وأتذكر حركة الأجسام المجنونة ، قبل أن تقف شامخة تفاخر بقوتها ولونها البحري الجذاب ، تكون الحركات معلبة والوجوه مكسلة بالهم والإنتظار ، لكن بمجرد وصولها الصاخب ، يتحول الكل إلى أطفال مشاكسين ..إلى عشاق من نوع آخر..يكتظون حولها وهي ممددة كمومياء عملاقة تصهل وتصهل ملتهمة المسافة والإسفلت وما تبقى من ربيع رقت فيه حواشي الدهر وتكسر التراب كابتسامة العذراء. ويشتد صراخ الجابي:
- يا الله عفاك..اشكون مازال؟
أشعر بحرج مفاجئ، ابحث عن شيء غير محدد، أسوي ربطة عنقي ." وجودي الآن وهنا خطأ..أنا علامة استفهام محاصرة بنقط متلاحقة ! " فكرت ثم اعتدلت في مكاني ، اتكأت على القضيب العمودي وفتحت الجريدة، ولما صعدت عيناي إلى السطور العليا ، فوجئت بها أمامي شامخة ممشوقة ، تصهل وتلتهم مسافاتي في إصرار." هذه فرصة لا تتكرر " فكرت مسترقا نظرة متوجسة إلى الشابين اللذين يقفان على يساري ويتهامسان ! وفجأة قالت مشيرة إلى الجريدة:
- أتسمح ؟
-" بكل سرور ! " وأعطيتها الجريدة ، تابعت الأنامل الرقيقة المطلية بالأحمرالباهت وهي تسافر بين الصفحات ، والشفتين المرتعشتين وهما تلتهمان السطور ، ما بين صهيل وآخر ، ما بين محطة وأخرى تنحني, تحتك بي أو تتكئ علي بجسدها الشمعي، وقد تضع كفها البضة على صدري هاتفة:
- أوف.. ياله من سائق !
- لا تقلقي ، سنصل بعد قليل !
وتنظر في عيني فأنظر في عينيها ، ابتسم ، تبتسم، أنزع " الرايبن" عن عيني لأ حمل نظراتي أكثر من رسالة ,وتسألني:
- هل أنت وحدك؟ فأرد مبتلعا ريقي:
- نعم.. وحدي
أقدام تمضي وأخرى تأتي ، الشابان الوسيمان منهمكان في نقاش خافت ، أحيانا يحتك بي أحدهما فيستسمحني ثم يلعن السائق فأشاركه اللعنة ، أرفع بصري فألمح بعض العيون ترمقني بين الفينة والأخرى بخوف ورثاء ، أخفض بصري ، أغرق في بركان من الحرج، يتصبب عرقي ." لعلها ربطة عنقي " وتمتد يدي في حركة تمثيلية مرتعشة ، أضبط العقدة بإحكام ." لعلها..لعلها هذه الممشوقة القد التي اختارتني هدفا لتمطر أسواري بقذائف الشبق والفتنة.. ! بكل تأكيد !" وأرفع بصري . نفس النظرات المليئة بالخوف والرثاء وشيء أشبه بالتحذير، الشابان لم يعدا محتكان بي ، وغادتي، أصبح عطرها يخترق مسام جسدي ويدوخني ." سأربح المعركة أيها المنافقون ! " وحينما أخفض بصري في طريق عودتي إلى أعماق روحي لأهيئ شفرة عشق جديدة ألمح شبه ابتسامة غامضة تسافر ما بين غادتي وبين الشابين الوسيمين ، فارتبك، لكنني أواصل عشقا بحجم الكون ، وفجأة تمد يدها:
- شكرا .. سأنزل هنا..أنت لطيف ..إلى اللقاء. !
وتنسحب وفي عينيها...في عينيها رثاء وشيء يشبه وميض الحب ، ويلتحق بها الوسيمان، فأكاد أجن، أمسح العرق المتصبب من وجهي بيد مرتعشة ، أسوي ربطة عنقي." اللعنة، العيون مازالت تلاحقني ونظراتي تخونني..سأحمي عيني" وأمد يدي إلى جيب ردائي." ياإلاهي.." الرايبن" غير موجودة ، مهلا..والحا..الحافظة غير موجودة هي الأخرى ، واكتم صرخة مدوية بحجم العشق الموؤود، وحينما أرفع بصري أفاجأ بنظرات الرثاء الخائفة، المحذرة وقد اختفت لتحل محلها نظرات ساهمة متعبة. ع.مرجان - م بوعزة 15/5/1994