عرس تيفلت يرحل بنا في شون الكلمة
كانت السماء ماطرة ،كئيبة ،حزينة ،وحده الحنين لمعانقة الكلمة و الوجوه التي تستحم دوما بالحرف و مداده النقي الطاهر ،من يدفعنا بعشق و شوق لملاقاتهم للسير باتجاه مدينة "تيفلت " و عريسها الذي سنزفه في ليلتنا الماطرة تلك ،و رصيدنا و آلاتنا الموسيقية لم تكن سوى دفوفا من الشعر، هجهوجا زجليا بنغمته الروحانية .دخلنا مدينة "تيفلت " استحضرت وجوها و أخرى تطل علي و تغيب .لا أعرف لماذا عندما أنطق كلمة "تيفلت " ،يحضرني الزجل ،يتمثل لي رجلا بهالة روحانية ،يرغمني أن أتبعه الى ما لانهاية ،يكسر صمتي ،يعجن قلقي حروفا و رغيفا للمريدين... .حتما سأوقف هذا الدهان العصابي الذي انتابني فجأة ،سأعود للعرس و العريس ...آه كلمة عريس أكيد لها وقعها الخاص بمخيلتي ،تذكرني برواية صلاح الوديع عندما أخذوه عريسا إلى دهاليز درب مولاي لشريف ،نعم بالفعل كان عرسا ساديا بكل المقاييس .
ـ لكن ما علاقة العريس كرواية تؤرخ لسنوات المآسي و النكبات بعريسنا اليوم "خويا احميدة "؟
ـ سأجيبك يا نصفي الساذج و السلبي. أفلا ترى معي أن خويا و خوك احميدة معتقل بامتياز ،سجنه الكتابة و تهمته الخيال .إنه يجلد في اليوم ألف مرة ،يستنطق ظاهريا و باطنيا مليون مرة .سجين بأصفاد لغوية و شعرية .مورس عليه أبشع أشكال التعذيب ،من "الطيارة الزجلية " إلى "الفلقة الشعرية "رقم زنزانته "2" ،لقد اعتقلته الكتابة أول مرة عندما فكر و ترجم تفكيره المشاكس زجلا في ديوانه الأول "لسان الجمر " .لقد استعذب مقامه القسري هذا و ارتأى أن يرتقي بسجنه من المحدد الى المؤبد ،و ذلك عندما أصدر ديوانه الثاني "الرحيل ف شون الخاطر " .فهنيئا له هذا الاعتقال الأبدي "ولي سقاه يرشنا " آمين .
اتصلت هاتفيا بشيخ الطريقة و الزاوية التيفلتية ،كلماته كانت تحمل نبرة الشيخ الكريم الذي يفتح دراعيه ،لمعانقة و احتضان كل نسمة أو طيف كلمة تحل ضيفة على الزاوية .وقفنا ننتظر قدوم هذا الجبل العالي برأسه الذي ينضح شعرا و فكرا و بقلبه الواسع و الرحب الذي يسع الكل .و بتواضع العظماء خرج لملاقاتنا ، كي يصحبنا الى منزله|الزاوية ،و التي فعلا ما إن تطأها القدم حتى تحس بسكينة المكان ،جدرانها تعكس شهوة دفينة للضوء المشع و المطل علينا بنفحته الوجدانية و الشعرية .كان يرافقه شابا ،عانقني بحرارة .قلت لنفسي متسائلا : من يكون هذا الشاب الوسيم ؟ حرارة تحيته توحي بأنه يعرفني .لكن قلت بداخلي ربما أنه ابن "ابا ادريس " .ركبنا السيارة و ذهبنا نقصد المنزل|الزاوية ،و الأسئلة بداخلي تتناسل حول هوية هذا الشاب ، من هو ؟و من يكون ؟ حاولت أن أفك طلاسمها بالاستعانة بذكائي الماكر ،الذي أعلن عصيانه و تركني وحدي أهيم بين الصورة و احتمالاتها الممكنة .وصلنا البيت على زخات المطر،الذي كان يغسل ما علق بأجسادنا المدينية من صخب و ضجيج ،و تصلب قلوبنا و علاقاتنا الانسانية صلابة الإسمنت الذي استولى على كل مساحاتنا الخضراء بمدينتنا البيضاء السوداوية القلب .جلست بخجل أستمع للجبل الزجلي ،مرحبا تارة و متسائلا عن أحوالنا تارة أخرى ،و كنت كالدهاني الذي ينصت و لا ينصت ،فصورة الشاب مازالت تفرض نفسها علي بإلحاح شديد ،أسرق بين الفينة و الأخرى نظرة استقرائية إليه ،علني أجد إجابة شافية حول هويته .فاجأني "ابا ادريس " بسؤال و كأنه نفذ الى أعماقي و قرأ ما بداخلي من حيرة حول الجالس أمامي ،و كأنه بذلك يحاول إخراجي من تلك التساؤلات التي طفت على سطح مخيلتي : " واش عرفتي شكون هاذ الشاب؟ إنه يعرفك معرفة جيدة " اكتشفت ضمنيا من صيغة السؤال المطروح ،أن الشاب الوسيم ، الجالس أمامي ينظر إلي و ابتسامته تعلو وجهه زجال ،لأن طريقة طرح "ابا ادريس" للسؤال توحي بأننا نتقاسم معا نفس الهم ،لكن همي الحقيقي الآن يكمن في الإجابة عن هوية هذا الجالس أمامي .فمن يكون هذا الشاب؟ الذي استعذب حيرتي و نظراتي المتسائلة ،حاولت أن أجيب مستعينا بمكر لغوي يجعل خطابي منفتحا بين المعرفة اليقينية و الترددية،قلت :" ملامحه ليست غريبة علي ،لكن حقيقة لا أعرف..."فقالت مرافقتي :"إنه توفيق البيض الحمري " .و أخيرا زالت حيرتي .وقفت للسلام عليه مرة ثانية ،و كأني أعتذر بذلك عن برودة سلامي السابق .تعانقنا عناقا أخويا ،ربطت الصورة بصورة ماضوية قاتمة كانت قد طفت على سطح مخيلتي لحظتها لكن ما فتئت أن محتها حرارة العناق الأخوي الصادق من أخ عزيز لأخيه .
لقد كان توفيق البيض هو الوجه الأول الذي التقيته لأول مرة ،وجه إنساني بامتياز ،صادق و نقي ،يعشق الكلمة حد الجنون و الهوس ،مسكون بالقصيدة الزجلية،إنه زجال من قيمة راقية جدا .طريقة إلقاءه للقصيدة متفردة ،يعطي للكلمة حقها في النطق ، مع مراعاة المتمكن العارف بخبايا الإلقاء و القراءة ،من مخارج الحروف و سعيه الدائم للإرتقاء بقراءته الى مستوى يساير و يراعي ما يمكن أن أسميه بمحطات الانفعال و المهادنة في قراءة النص الزجلي .سعدت جدا بهذا اللقاء.
ثم التحق بنا بعد ذلك شاعر زجال من قيمة راقية ،قدمه لنا "مولاي ادريس" في صورة ذلك المثقف الذي يوثر على نفسه خدمة للقصيدة الزجلية و للعمل الجمعوي الهادف بنكران للذات ،إنه الزجال المتميز "سي ادريس الزاوي "،الذي فعلا لمست فيه الإنسان و الفنان ،و ذلك من خلال نقاش قصير دار بيننا .إنه بحق وجه شعري متميز كان لي شرف ملاقاته و مجالسته في حضرة شيخنا الجبل "مولاي ادريس" و من الوجوه الزجلية القادمة حتما لاعمار بيتنا الزجلي ،شاب اختار المنفى الشعري و هو في عقده الثاني ،إنه الزجال "ادريس فكري " هذا الشاب الذي جلس في حضرة الشيخ ،و قد علت الحمرة وجهه ،احتراما للمكان و لصاحبه .بعد استماعنا لبعضنا البعض ،و قد كانت القصيدة الزجلية تكسر رتابة صمتنا ،قرأ علينا الزجال المقتدر "ادريس فكري" قصيدته "لبحر" كانت بالفعل قصيدة جميلة ،ثم جاء دور توفيق البيض الذي سبق لي أن قرأت له عدة نصوص ،لكن لم يسبق لي أن سمعته مباشرة .قرأ أولا قصيدة "غزة " ،و الحقيقة أني أصبت بصدمة زجلية من خلال طريقة إلقاءه،يتفاعل بكل جوارحه مع النص ،يستحضر كل ما يخلفه النص من انفعالات ،و يغيب الآخر المتلقي ،إنه يتمتع بتوازن نفسي يحسد عليه "اللهم لا حسد خويا توفيق" .
إنها الساعة السادسة و النصف ،و الأكيد أن العريس في زفته ينتظر قدومنا،التحقنا بالقاعة التي ستحتضن عرس أخينا و زواجه الثاني .و ما أحلاها من عروس خويا احميدة "الرحيل ف شون الخاطر" فرغم الجو الماطر فقد وجدنا القاعة مملوءة عن آخرها ،أتوا الإخوة من كل حدب و صوب من عدة مدن مغربية ،حضروا كي يباركوا هذا الاعتقال المبارك لأخينا احميدة داخل "دهاليز لمخازن" الكتابة و أن يشاركوه متعة الإقرار ب" الفايتات من لمحاين " من خلال قلق القصيدة الآسرة .كان خويا احميدة عريسا بامتياز ،يذهب الى حتفه في غياهب سجون الكتابة باسما مبتسما ،يوزع تحياته بسخاء حاتمي ،حضرت أسماء وازنة في حقلنا الثقافي و الإبداعي من نقاد و شعراء و كتاب أغنوا بكتاباتهم رفوف مكتبتنا الوطنية .سعدت جدا بملاقاة الباحث و الزجال المتميز "محمد الراشق" الذي أسعدتني جدا كلماته في حق مداخلتي ،و قد تواطأ بذلك مع خويا احميدة في توريطي أكثر في الكتابة النقدية ،تبادلنا حديثا مقتضبا حول قلقنا المشترك ،ألا و هو القصيدة الزجلية ،حييته تحية التلميذ لأستاذه الذي تشرف بالتعرف اليه مباشرة ،ثم انصرفت لأجد نفسي أمام وجه آخر ،أحبه في الله تعالى ،إنه الزجال المقتدر سي الميلودي العياشي،إنسان من طينة متميزة ،وقفنا نتحدث و بخبثي الاستقرائي الذي يداهمني في كل لحظات حواراتي ،أحاول أن أفصل تحليلا لمقاس شخصيته،وجدته إنسانا يلبس عباءة إنسانيته ،يبتسم في وجه محاوره بسخاء،طيب و كريم،حدثني طويلا عن علاقته الأخوية بعريسنا خويا احميدة .لمست صدق ما يحمله أستاذ العلوم الطبيعية لزميله أستاذ الرياضيات،فهنيئا للأساتذة الكرام بنبل و صفاء ما يكنانه لبعضهما البعض .ثم التقيت بعد ذلك بوجه تيفيلتي آخر أقابله لأول مرة ،إنه الزجال المتميز أحمد بنزها،وجدته كتوما،لكنه وجه طيب من نبتة تيفيلتية .
انتهى حفل توقيع ديوان "الرحيل ف شون الخاطر" الذي كان قد احتضنه نسيج جمعوي متكون من ثلاث جمعيات،أبانت عن تضامنها ،و أعطت المثل في التآزر خدمة للعمل الثقافي و الجمعوي من أجل الإرتقاء بالكلمة الى مستوياتها الراقية .
شكرا للعريس خويا احميدة الذي وجه لي دعوة الحضور كي ألتقي بكل هذه الوجوه الجميلة .شكرا لزجالنا المقتدر سي ادريس أمغار مسناوي على كرمه الحاتمي و استقباله لنا في بيته|الزاوية .شكرا لمدينة تيفلت المزجالة و العاشقة للحرف عندما يمتطي صهوة انزياحاته .