لوحة اللقاء
في غرفة الفندق أطلعني الفنان والدكتور محمد سعود على فكرته وهو يتساءل "هل في إمكان الجمعية أن تتبناها؟".
كنت منهمكا أوقع لسي محمد ديوان « أ ل جسد »، رفعت رأسي مندهشا وقلت له "فكرة هائلة، يجب أن تنجز"، وأردفت "أنا من سيشجع الجمعية على قبولها وتوفير الشروط اللازمة لتحقيق ذلك".
الشاعرة فاطمة بوهراكة لم تبد أي تردد، حين سمعت بالفكرة تحمست لها كثيرا.
الإبداع مغامرة... جرأة ...
الأعمال الكبيرة تكون في بدايتها مجرد أفكار صغيرة قبل أن تكبر وتتطور لتتحول إلى مشاريع عظيمة...
في اليوم الثاني من المهرجان دخلنا القاعة الكبيرة. كان القماش الأبيض على المرسم في وسط خشبة القاعة الكبيرة، وعلى يساره، أو على يمين الحضور وقفت المنصة.
بدأت القراءات وبياض اللوحة الناصع يملأ وسط الخشبة.
تساءلت لماذا سي محمد لم يطلب منا الشروع في تنفيذ فكرته موازاة مع القراءات؟... ماذا ينتظر يا ترى؟
كان بإمكاني أن أضع عليه السؤال مباشرة لأنه كان على يمني، ولكن ترددت. قلت مع نفسي " سي محمد يعرف شغله "، ثم سرعان ما انتبهت وقلت "لعل سي محمد أراد أن يجعل بياض اللوحة جزءا من الديكور ".
بالفعل البياض يمثل جزءا من القصائد التي يلقيها الشعراء .
إنها شعرية البياض ... وبياض الشعرية في مراسيم من نوع خاص.
كنت أتخيل ما يلقيه الشعراء يتحول إلى ألوان...والبياض الذي أمامي يتحول إلى بساط سحري، وأنا رفقة الشعراء ممتطيين صهوة هذا البياض إلى عالم مجهول.
في البياض كنت أتخيل كذلك نفسي مع الفنان سي محمد والشعراء نتبادلوا حلم البياض وبياض الحلم.
في البياض كنت أعيد كتابة ما أنصت إليه وأنا أتصور سي محمد يشكل ما يستخلصه من صور يلتقطها.
كانت أشياء كثيرة تدور في مخيلتي وسي محمد دائما إلى يميني صموتا، لا أدري ما ذا كان يدور في رأسه. تمنيت لو عرفت...
سي محمد هادئ ...لا يتحرك، كان يركز سمعه.
بعد القراءة سأكتشف أنه يحب الشعر ويتذوقه وأنه منصت جيد يمتلك أذنا ثالثة، بالإضافة إلى عينه الثالثة ويده الثالثة...
سي محمد فنان يعيش أفكاره لأنه يؤمن بها.
بعد القراءات الشعرية طلب من الشعراء أن يصعدوا جميعهم إلى الخشبة.
سي محمد بقميصه الأبيض وقبعته السوداء وثب كأسد على الخشبة. طلب منا أن نضع خربشاتنا على القماش الأبيض كيفما نريد وباللون الذي نختاره.
كالأطفال تسارعنا.
المحتفى بها الشاعرة ملك العاصمي هي أول من وضعت بصماتها على القماش. جاء اختيارها على اللون الأصفر. تقدمت أنا وحاولت أن أكسر اللون الأصفر المنفجر داخل اللوحة بلون أحمر، لأعود بعدها إلى الخلف حتى أترك المكان للشعراء الأخرين : الجزائرية ليلي المنصوري والموريطاني أدى ولد أدب، و الليبي صابر الفيثوري، والتونسي عمر الكوزي تتوسطهم الإماراتية هدى السعدي وخديجة ماء العين وأمينة لمريني. السعودي سعود بن عبد الكريم رأيته يحاول أن يأخذ مكانه داخل المجموعة ورأيت العراقية وفاء عبد الرزاق تبحث لها عن فرشاة. انتبهت إلى أبو الصفاء ينسل من الزحام ويقف جانبا...
اختلط علي الأمر بعدها ولم أعد أرى إلا أجسادا ترتدي ألوانا وألوانا تغطي أجسادا ...
اختفت اللوحة وسط الشعراء ..
كان كل شاعر يهيم في لونه.
كان كل لون يهيم في واده.
وسي محمد يحاول بما أوتي من قوة إبداعية أن يعيد الألوان، بل الوديان إلى مجرى واحد حتى تصب في بحره هو.....
نزلت من الخشبة لأراقب من بعيد سير العمل التشكيلي.
لم تعد تظهر إلا قبعة سوداء تطفو تارة على رؤوس الشعراء وتارة تغيب. لقد اختفى سي محمد وسط الشعراء واختفى الشعراء وسط ألوان تتزاحم.
في زحام الألوان كنت أحاول أن أتتبع حركات الشعراء وأحدد دور الفنان.
كان الفنان متوغلا ... يتدخل بألوانه و روتوشاته دون أن يملي أي شيء على الشعراء.
لقد ترك كامل الحرية للشعراء ، يعملون ما يشاءون...
كان دور سي محمد هو أن يزاوج الألوان... أن يمنح لها اتجاها... رمزا، بل معنى ...
من زحام الألوان تطل دائما قبعة سي محمد السوداء ويده تنتقل من لون إلى آخر لتلد لونها...
الشعراء رجعوا جميعهم إلى الخلف ينظرون إلى خربشاتهم كيف تتحول إلى عمل إبداعي حقيقي.
اختفى بياض اللوحة نهائيا وبقى بياض قميص سي محمد يتحرك أمام اللوحة.
صفقنا لبياض سي محمد الذي حل مكان بياض القماش ...
صفقنا كذلك وبحرارة للشاعرة فاطمة بوهراكة وهي تتسلم لوحة اللقاء رقم 1 لمهرجان فاس الأول للإبداع الشعري لدارة الشعر المغربي....
إدريس أمغار مسناوي
فاس: 30 مايو 2010م