أيضا تضحك القبور..

عدد الرسائل : 1 تاريخ التسجيل : 23/09/2010

ربما بكل بساطة اللهفة يكون قد قتله؛ القول الأكيد أن نفسه سوّلت له قتل أخيه؛ كانت هي هناك واقفة؛ لم تَدْرِ على من تَبْك؛ هل تبكي على المقتول أم تبكي على القاتل؟؛ لتبدأ مسيرة الدم على الأرض؛ كان بدون أدنى شك أول دَمٍ آدميٍّ يُلوِّنُ الأديمَ غير أنه وبدون أدنى شك أيضا لم يكن آخر دم.
"نيرون لم يحرق روما" بهذا الكلام بدأ اعترافه؛ كان اعترافا متأخرا؛ قال إنه رغم وظيفته الوضيعة في القصر إلا أنه استطاع إحراق روما كما استطاع الانتقام منه؛ يقصد "نيرون"؛ كما استطاع أيضا إحراق قلب أمه عليه؛ بعدها جعل يبكي؛ انخرط في نوبة بكاء حاد؛ ليس إحساسا بالذنب إنما بسبب لقصوره؛ عرف أخيرا أنها لم تكن الكيفية المثلى؛ عرف أن ما قام به كان نكتة بذيئة.
غير أن صهيل الخيل امتدّ مخترقا الصدى هذه المرة؛ لحظتها كان المساء يهجم كعادته ليطفئ ضوء الشمس؛ امتدّ الصهيل؛ عم الآفاق؛ لم يكن يعتقد وهو يشغل ذاك المكان من الصرح؛ المكان الذي يسمونه عرشا؛ لم يكن يعتقد أن هناك صهيلَ خيلٍ خارج مملكته؛ كان يظن مثلما أنها حيث تمطر تأتيه الأرض راكعة مستسلمة؛ اعتقد أيضا أنه لا يوجد صهيل خارج مملكته بل لا توجد خيل بالمرة خارج مملكته؛ لحظتها كانت بغداد تمور من تأثير الوهن؛ كنت أدرك أنا أن خيلا في مكانٍ ما ستأتي تَدُكّ الأرضَ والصرح والعرش والسماء؛ جاءت ودكت الأرض والصرح والعرش؛ غير أنها – وقتها - لم تدكّ السماء؛ عندما دخل الصرحَ سيّدُ الخيل الجديدة؛ لم يجد حتى من يرميه بنعله –أيضا وقتها لم يتم اختراع الحذاء -.
وهو يحدثني هامسا؛ كان يَـحْذَرُ الرقيب؛ راح يُخبرني بالفاجعة؛ قال إننا انتهينا؛ ضحكت؛ لست أدري لحظتها سببا مُعَيّنا للضحك أو واضحًا؛ إنّما ضحكت؛ ضحكت ثم سكتُّ؛ أطبق الوجوم؛ تلتقي أعيننا؛ نكتفي بالصمت الرهيب؛ كان هذا عندما سقط ابن خالتي "عمرو"؛ أنا لا أناديه كما يناديه كثيرون غيري ويقولون له "الجاحظ"؛ كان في سريرته يَنْفُر من كنيةٍ مثلِها؛ فأحِبُّ مناداتَه "عمرو" وكان يعجبه هذا مني؛ يُثْني عليّ غير ما مرة في مجامعه الخاصة؛ إلا أن ابن الحارة رفيقنا الثالث يقول أننا انتهينا وهو يَقُصّ لي تفاصيل الوفاة؛ كانت رفوف المكتبة من الثقل بمكان حتى أنها أتت على حياة "عمرو"؛ ساعتها ضحكت وأنا أرى النهاية.
وقفتُ بعدها أتأمل ذلك البحر العظيم وأمواجه تتلاطم؛ كأنما يريد أكل اليابسة؛ ويأتيني كلام فجٌّ غير بعيد يقول "سنرميهم في البحر"؛ النهاية أننا وجدنا أنفسنا في البحر.
هذه المرة لم يكن صهيل الخيل الذي أتى من هناك؛ هذه المرة كان صهيل الحديد؛ وكان "هو" الشاهق الذي أبى الانكفاء؛ كلهم انكفؤوا؛ وحده أبى الانكفاء؛ غير أنني أخيرا سمعت قرقعة؛ كانت صوتا من جهة عنقه؛ كان هو المُعَلّى وكان الحبل هو المُدلّى وما دونه؛ كنت في تلك الصبيحة أنحر أضحية العيد؛ عيدٌ كان آخرَ يوم في سنة ميلاد المسيح.
كنتُ مُنتظِرا أن يحدث شيء؛ أكيدٌ سيحدث أمرٌ ما؛ ناموسُ الطبيعة يؤكد؛ كان يصفني الصّحاب من طول انتظاري؛ يُسمّونني "منتظِر"؛ في البدء كنت أصرّ؛ أصرخ أحيانا فيهم؛ أقول إن لي اسما؛ ظلوا ينادونني "منتظر" لذا لم أعد أُعِيرهم أدنى اهتمام.
كنت أراه – صاحب صهيل الحديد - بين الصفوف يتقدم؛ بكل بذاءة يتقدم؛ كان يفتح صندوقه؛ يأخذ منه بعض البَسماتِ السَّمِجة؛ يُوزعها هنا وهناك؛ كنت في داري وهو أتى إلى داري؛ أخرَجَ منها صِبْيتي؛ أخرَجَ جدّتي العجوز؛ أخرَجَ زوجتي؛ نَبَش قبر جدي الأول؛ نبشه فقط لأن اسمه "حمورابي"؛ هل كان كل أمري بسيطا إلى درجة الذوبان؛ الذوبان الذي يدفع إلى الغثيان؛ ظل يتقدم بين الصفوف؛ كنت أتقدم بين الصفوف؛ ظل يتقدم؛ كنت أتقدم؛ كثيرٌ عليه أن أضربَه بآلة؛ كثيرٌ عليه أن أصفعه بيدي؛ كثيرٌ عليه أيضا حذائي؛ لم يكن في أرضي أحقر من حذائي؛ ضربته بحذائي.
ظلَلْتُ بعدها أضحك؛ أضحك؛ أضحك؛ كان يركلني؛ يكسر لي ذراعي؛ كان صفيقا؛ بينما ظللت أضحك؛ أدركتُ فعلا كيف يذهب أحدهم إلى عرش التاريخ بينما يذهب آخر إلى مزبلته.
ظللت أضحك؛ أضحك؛ أضحك.
ذكروا لي بعدها أن ضحكي عمّ كل الأرض؛ عمّ كل الآفاق؛ ذكروا أيضا أن الناس نسوا بعض الأحزان وأن الشمس لم تغب لثلاثة أيام؛ ليس في بلادي وحدها بل لم تغب عن كافة الأرض؛ لم أَدْرِ كيف؛ غير أنها لم تغب عن كافة الأرض.
أيضا وهذا أغرب ما حدث؛ لاحظ الناس -حول داري- انبعاث الضحكات من القبور.

بسكرة في: 16 ديسمبر 2008

السلام عليك أخي ابراهيم رحمة
أولا,مرحبا بك قاصا مبدعا في جامعتنا الحبيبة ثانيا,قرأت نصك باهتمام و اعجاب كبيرين.لقد قمت بجولة حول التاريخ البشري انطلاقا من حادثة قابيل و هابيل,
مرورا بحرق روما,الى مقتل الجاحظ تحت ركام كتبه ,الى دخول هولاكو بغداد,الى النكبة الكبرى ,فشنق صدام يوم نحر الاضحية....و يالها من أضحية الى حادث الحذاء لأخينا البطل الزيدي.كل هذا المسار تمكنت أخي من سرده بأسلوب متزن,رصين و ينم عن المام يتلابيب التاريخ و أحداثه. لكن,أحببت أن أنبهك الى أنك أوليت اهتماما بالأحداث أكثر من اهتمامك بحبك القصة.من خلال قراءتي المتأنية ,لاحظت أنك لم تستعن بمبدأ الاخفاء في سردك ما أضفى نوعا من التقرير المباشر على قصك.هنا أود أن أشير الى أهمية توظيف البياضات و الاضمار و ما اصطلح على تسميته أسلوب الانزياح خصوصا أثناء تقديم الشخصيات التي أتت هنا واضحة الملمح و المرمز.
نحتفي بك و بقصك
تقبل تحيات أخيك عدنان الهمص

نص بقيمة مبدع متألق نتمنى

تحية لك ورحبابك قاصا مميزا
سرد ووتمرير تاريخ جريح بفنية مدهشة

السلام عليك اخي الفاضل ابراهيم ورحمة الله

نص رائع تمكن في اليات السرد وتوظيف موفق
لحوادث تاريخية اعطت هذا النص نكهة خاصة
مرحبا بك مبدعا واخا بيننا
تحيات
اختك مهدية

» الأستاذ محمد فكري مشرفا أيضا
» قريبا أيضا للمبدع محمد فكري
» الموت يسرق أيضا المبدعة فوزية أمين