خبز العيد كلما مرت تلك الذكرى الصغيرة من أمامي ، تفتحت في الطفولة من جديد ،وحدها يدا أمي كانت تصنع للعيد فرحته وتسوقها إلى قلوبنا الصغيرة على أطباق المحبة والحنو..
تستيقظ مع تراتيل الفجر ،تشعل نار الموقد و تضع قدر الماء الكبيرة المفحمة فوقها ،وتنفخ تحتها بزفرات ثلاث أو أربع، لتتقد أعواد القطن الباردة ،وتلتهب روثات البقرة الصفراء ،
ومع بدايات الصباح الأولى تدفع أمي باب العلية علينا حاملة معها شعاعات الشمس البلورية .
ترفع عنا البطانيات ،تقرع كفا بأخرى،وتهتف بصوتها العسلي :استيقظوا فاليوم عيد..
كنت أصغر إخوتي وكان النوم يغالب جفوني، فلا أقوى على الامتثال لندائها بنفس سرعة إخوتي الكبار. أمسح بأصابعي العمش الملتصق بالرموش ، وأفرك عيني الصغيرتين لأطرد عنهما النعاس، أفتحهما فأجدها قبالتي تغازل الصبح على فرشتي ،وتهديني تغاريد الصباح ، تمطط جسدي بيديها ،تفتح كفي وتقبل لون الحناء الشفقي وهي تدندن :مبروك العيد يا لالا ، تعيدي وتعاودي ،ونشوفك عروسة
إن شاء الله ..
وما إن تنتهي طقوس الإستيقاظ ،حتى تبدأ دورية الاستحمام ، كل من في البيت يستحم صبيحة العيد
تقول أمي بأن في ذلك بركة، وخلاص للأجساد من الكسل والمرض..
تفرغ القدر الكبيرة وتملؤها أمي تذهب وتجيء على عجل، بين المطبخ و الحمام القصبي المنصوب في ساحة البهو ، مشمرة على ساعديها ،رافعة تلابيب قفطانها في حزامها ، والسروال القصير المطرز بالأخضر يمنحها رشاقة وسهولة في الحركة ،بينما صوتها لا ينفك يحلق معها :أحمد لا تنس فرك رجليك بالصابون ،فاطمة كسوتك البرتقالية وحذاؤك البني فوق الكرسي ،سعيد لا تلمس الكعكات فهي معدودة وكل ناقصة ستسقط من حصتك .. تدب في المنزل حركة غير عادية ..
هذا يبحث عن قميص وذي تبكي لأن زر الفستان سقط ،وذاك ينفخ شدقيه لأن السروال فضفاض ،وتلك تطلب العيدية قبل الإفطار..
أما أنا فكنت أبقى ملفوفة في فوطة الحمام الكبيرة إلى حين فراغ أمي من متاعب أولئك المشاغبين الكبار. أحضن قميصي الأحمر، وتنورتي الموردة ذات الطيات المجنحة الكثيرة . أدور أدور وأنا البسها كاني أركب أرجوحة كهربائية تحملني الى سماء بعيدة لا تنتهي.. فتغار مني كل القرينات ..
كنت أفرح بالعيدية كثيرا عيدية نجمعها من الجيران والأقارب الذين يزوروننا في أول العيد ،ويقضمون الرغيف المقلي والقطائف المعسلة على عجل ..لأن طواف المنازل مايزال في بدايته ..
لكن كانتفرحتي أكبر وأنا أقبل خبز العيد ، ذاك الخبز الاسفنجي الأبيض ،المعجون بالكراوية وحبة البركة ،المدهون بصفار البيض ،والمرشوش بالسمسم .. كم أحبه لكن أمي لا تعده الا كل عيد ،والعيد لايأتي الا مرتان في السنة، لذا أحاول أخذ قسطي الوفير من حبه واشباع رغبتي الكبيرة من لذته ..
كانت له رائحة مميزة تنبعث في كل أرجاء البيت وتظل تسكن الدولاب ،والأغطية ، والمخدات مدة طويلة بعد العيد.. لونه الأصفر الذهبي مايزال يهز ذاكرة بطني الطفولية ويهدهد في الحنين ..
طوال يوم العيد لا أجلس الى طاولة طعام، ولاأشتهي لحما ولاخضارا ولافاكهة ، ألعب مع رفيقاتي وأركض ،أسقط وأقوم ،أشاغب وأشاكس ،وأنا أحمل في اليد كسرة خبز بيضاء ،ألوكها باستمتاع وتعطر فيي نسماتها الزكية ولما يجف حلقي، أركض الى خابية الماء ،أغرف منها بكأس الفخار المطلية بالقطران ، فتزداد شهيتي لكسرة أخرى من خبز العيد..
ومع غروب شمس العيد تدخل العصافير الى أعشاشها ،والدجاجات تمتطي عروشها ،ويسوق الرعاة الأغنام الى الزريبات ،وتخرج النسوة بحثا عن أطفالهن بين الدوالي والكروم ..
عشيتها وجدتني أمي تحت التوتة الكبيرة نائمة ،أفترش منديل الغميضة ،وأمسك بأصابعي على كسرة من خبز العيد .
مريم الوادي
20 أبريل2011