أيــــــــام ســـــوداء
بخطى ثقيلة وظهرشبه مقوس.. ووجه رسمت عليه السنون أخاديد التعب ، دخل مكتب المدير، أخذ يرتب الأشياء .. يمسح المكتب والكرسي المتحرك بحزمة من الريش الناعم المعقودة على رأس عمود خشبي.. وقبل الجلوس على كرسيه الخشبي الكائن عند مدخل الباب من الخارج ، التفت وألقى نظرة أخيرة على المكتب.
بعد نصف ساعة ، دخل وهو غضبان... سيما القلق بادية على محياه،أطلق سعالا قصيرا واضعا قبضة مثقوبة على فمه.. تبعه الخادم أحمد وحياه بانحناءة لطيفة، وضع فنجان القهوة على المكتب كعادته بعناية ، نظر إليه المدير نظرة خاطفة، وبحركة ميكانيكية
أشعل نصف سيجارة كانت بيده، كغصن في مهب الريح بدت ترتعش ،أخذ نفسا عميقا... نفث الدخان وهو يغمض عينيه ، التفت إليه الآخربكل حذر، تذكر الواقعة التي نزلت كالصاعقة على المدخنين، حدث نفسه : لكم الله أيهاالمتنطعون، تحرقون المصانع كلها في يوم واحد ؟ ليتكم حرقتمونا نحن...
في الخارج، أصاب الجزء الكبير من المجتمع غضب عارم... كادت تتعطل بعض المؤسسات،الحكومة تطالب المدخنين بالالتحاق فورا بعد أن وعدتهم باستيراد أكبر كمية من الدول المجاورة في أقرب وقت ممكن. لكن عملية الاستيراد تتأخر...والمدخنون يزدادون تنمّرا وغضبا، صارت المقاهي عبارة عن قبور ... الجالسون أموات صامتون كأهل الكهف ... والمارة من غير المدخنين يتجنبون المرور بمحاذاتها، لا أحد يفهم كيف تفشت فوضى عارمة... عدة زوجات ضربن أو طلقن ... امتلأت السجون والمستشفيات . الصحف تلتمس من الزوجات الطاعة مهما كانت أوامر أزواجهن المدخنين ... تطالب الآباء بالخضوع لرغبات أبنائهم المدمنين... صوت إذاعي صار يتكرر كالإشهار" افسحوا لهم في المجالس... اسمحوا لهم مهما فرطوا في حقوقكم... تسامحوا معهم أكثر... لينوا الكلام... أحسنوا الجدال... لا تذكروا السجائر في أحاديثكم... اجتنبواالضحك... لا تشمتوا بإخوانكم ، نرجوكم ! كونوا عقلاء .. فأنتم الجسم السليم وأنتم العقل السليم."
في الساحات والشوارع مظاهرات تطالب بالدخان ... رفعت لافتات تقول: "الدخان أولا ثم الحرية ثانيا " "بيعوا القمح وهاتوا الدخان " "ويل للمتشددين" ... لم يذكر أحمد كيف سمع بخبر الرجل الذي يصنع التبغ ،سأل عنه حتى وجده،اشترى منه كيلو من الحشائش الميبّسة والمقطعة أجزاء صغيرة، التقطه كما يأخذ الفقيركيلو من الدقيق في السنوات العجاف ،وهرع إلى منزله وهو يخفي بضاعته بين ثوبه وجلده.
أخذ ورقة رقيقة بيضاء،ثم أخذ مسكة أصبعين من تلك الحشائش ووضعها على الورقة ، بالإبهامين برمها ،وبطرف لسانه بلل حرفها وبرمها حتى استوت في يده سيجارة، ثم أشعل سيجارته الجديدة بفرح كبير، سحب نفسا عميقا ثم زم شفتيه تاركا ثقبا ضيقا لطرد الدخان ، وأخذ يدخن في شره وهو ينظر إلى باقي الحشائش المفروشة أمامه كأنما ينظر إلى كنز... كان طعمها مر المذاق ...وخزه ضميره الذي أضحى كبركان نشيط ..كل مرة يرميه بحمم حارقة : أين كان عقلك يا رجل ؟ كان أبوك يهبّ أمامك واقفا كلما تأخرت ليلا ، يزفر من منخريه كحصان هدّه التعب ،يسأل ويصرخ ..كان يقترب كل مرة من وجهك لعله يعثر على دليل ، وأنت كنت تعرف كيف تمحو الأثر تلو الأثر . وأمك ؟ كانت المسكينة ككلبة صيد ، لا تني تتشمّم ثيابك ..تتوسل إليك ألا تتهور..أحس بسعال قوي استعاد معه زمنه الحاضر ، بدأ يسعل بشدة، ثم أخذ الحشائش ووضعها في قطعة ثوب وعقد حولها عقدة محكمة وخبأها في مكان أمين وخرج.
ألفى الناس يتسابقون لشراءالجرائد ، تذكر أنه رضع الأمية من ثدييها ويرتع الآن في أحضانها، وما لبث أن لاحظ الجرائد تتطاير فجأة هنا وهناك... تأوﱠه بعمق ، تناهت ﺇليه أصوات من ورائه :
- يقولون بأن الدول الكبرى هي التي حظرت عملية تصدير السجائر ﺇلى بلادنا ..
- تبا للدول الكبرى .. أ البيع حرام يا ناس؟ نحن نكاد نختنق وهم لا يأبهون؟ أي حق في هذا العصر وأين هي حقوق اﻹنسان؟
- أي حق؟أجاب ثالث، يريدوننا فئرانا في المختبرات.. نحن نكاد نجنّ فيما علماؤهم يعقدون الندوات ويطالبون حكوماتهم بعدم تصدير السجائر... ؟
كان يمشي بلا هدف .. أفكارضبابية تغزو عقله المتعب ، حملته رجلاه كالعادة إلى مقهي ، جلس يتأمل الوضع الجديد ..حانت منه ابتسامة ساخرة من نفسه وهو يغرق في ماضيه الآسن ..تذكرهما للمرة الألف ..لعنهما كالعادة من كل قلبه المحروق..تبا لهما من شيطانين ، كانا يلحّان عليك أن تحذو حذوهما فرفضت .ذات يوم أسود قال سمير وهو ينفث دخانا بكل نشوة :
- إنه لايقدر.. قلبه ضعيف جدا كقلب عصفور مريض، سيموت من السعال لو فعل..
علق الآخر مستهزئا بك أكثر :
-بل سيعلقه أبوه كخروف العيد ،ثم أطلق العنان لقهقهة مدوية نثرت مشاعرك وصيرتها شظايا حارقة.. من يومها سقطت وحصل المحظور ...لم يدر كيف أحس بعزيمته القديمة تغزو عقله الآن..الآلام بدأت تنطح أعصابه بقرونها الحادة ..كنسرين شرعا يتصارعان في الفضاء الواسع ..تذكر كنزه المدفون ، أخيرا عزم أن يدفنه مع ماضيه الآسن .