فيما كان الحاج صالح ينظر بإمعان إلى الدَّجاجة التي كانت تتراقص, باحثة عن روحها التي أزهقها الحاج بحدِّ سكِّينه, لتقدِّمها زوجته, وجبة غداء فاخرٍ مع صحن من البرغل, ستدلق عليه بقايا المرق والسَّمن, كانت القطّة نذير الشُّؤم تحوِّم في الفناء تتربَّص بجثتها المغتالة....
أخذت تموء وتموء, تدور حول نفسها ثم حول المكان, تقترب وتبتعد, وقد اتَّسعت حدقتاها تبحث عن طريقة تختطف بها الرَّأس أولاً ليتبعه كامل جسد الغنيمة, لأنَّ الحاج بعد أن ذبحها لم يفصل الرَّأس عن الجسد, وهذه الطَّريقة تقليدية قديمة, لا أعلم ما مفادها... كل ما أعلمه و هو أنَّهم يوجِّهون رأسها نحو القبلة مقبضين بيد على الرَّأس, لتظهر الرَّقبة جليَّة, وباليد الأخرى السِّكين, ويكفي أن يكون النَّحر بالوريد ثم جزء من الحنجرة.
تلوى الرَّقبة إلى الخلف, لتتصدَّع عظامها متهشمة, محدثة طقطقة, حتى يتأكد من أَّنه أجهز عليها كلياً.
في هذه الأثناء تناهى إلى مسمعه صوتٌ أجشًٌّ من خلف السُّور الذي تماسك بقدرة قادر....
حاج صالح... أين أنت يا حاج صالح
يردُّ عليه الأخير:
أما زلت خارج السُّور, هيا ادخل, ما الذي جاء بك في هذا الصَّباح الباكر يا فتاح يا عليم يا خلف...
ألا تعلم بأنَّ اليوم موعدنا لوضع حدٍّ لذلك الرجل وعلينا أن نجتمع جميعنا من أجل ذلك, قال خلف..
دلف خلف متمايلاً في مشيته, يجرُّ خلفه عكَّازه عوضاً عن الاتّكاءعليه..
ما زالت جثَّة الدّجاجة في ساحة الدّار, نظر إليها ملياً ثمَّ قال:
أتعلم يا حجي إننا نزهق أرواح هذه الكائنات توحشَّاً ولكن والله لحمها لذيذ, ولا غنى لنا عنه ثمَّ تمتم: حين يحين موعدي مع التراب سأقدم لله روحا طازجة لا رائحة لجسدي فيها..
خلف فيما مضى كان شابًّاً, يجوب ألف مغارة بين فترة العشاء وحتى ساعات الفجر الأولى, ثمَّ يعود إلى بيته وقد أعياه التَّعب, لكنه يظهر عدم الاكتراث, تباهياً أمام زوجته الجميلة التي حصل عليها عنوة من بين مخالب والدها الجّشع ساخراً من كل من تقدَّم إليه بنصيحة مفادها:
إنّها (سيفي) وما أدراك ما (سيفي) التّفاحة التي استعصت على كل من تقدَّم لاقتطافها, جمالها كالخمر المعتّق الذي يتحسَّن مع مرور الزمن....
تدخلك هاويةً لا قرار لها, حين ترمقك بنظرة فاحصة, من تلك العينين اللتين اشتدَّ بياضهما وسوادهما, فبانتا كعيني لبؤة, تتَّقدان شرَّاً, محدثة عاصفة أفعوانية, لدى شعورها بخطر يحدق بها, وحين الوداعة تبدوان لك جوهرتين تلجهما زحفاً وتلمس حبَّات الخرز التي تشابكت فامتزجت ألوانها لتؤلِّفهما.....
تزوجها خلف وأدخلها بيته, مضى على ذلك ثلاثون عاماً, مع ذلك ما تزال تلك الـ (سيفي) كسابق عهدها لم تتغير, ولم تسلم على مرّ السنين من ألسنة النّسوة اللواتي يرمقنها بحقدٍ حين يرينها بصحبته, وقد اعتلت الابتسامة ثغرها, تتنامى ابتسامتها عن رضاها على عيشها في كنف هذا الرجل الذي لم يخذلها يوماً, وظلَّت تحصِّنهُ كالقلعة المنيعة.
طلب الحاج من خلف الجّلوس, لمعرفة ما عزموا عليه وهو الذي كان حاضراً دائماّ, مع أهل القرية متضامناً معهم في كلَّ أمورهم.
يكفيه أن يعلم بأنَّ هناك أمر ما, ولابدّ من الانخراط جميعاً فيه فيكون هو المتقدِّم الأول.
نادى على ابنته ( خانم ) نريد شاياً ...
صوتها ناعم كهسيس العصافير في صباحات الرّبيع الأقحوانية .....
في الحال يا أبي ... ردّت خانم.
أتعلم بأنَّ هذا ابن الـ (.....)سيكون سبباً في إفلاسنا يوماً ما...
يعلم بأنَّه بدافع من أخلاقنا الكريمة, وحفاظنا على كلمتنا, لا نتعامل مع غيره من التُّجار لشراء محصولنا واستئجار حصادته التي أصبحت كقطعة خردة بالية, ومع ذلك فإننا نسلِّم رقابنا لها لتحصدها واحدة تلو الأخرى.
ليلة أمس اتفقنا أن نذهب إليه, ونناقشه بالأمر, إلى متى سيظل يسرقنا.
جاءت( خانم ) بالشاي قدَّمته ثمّ انصرفت, دون أن تتفوه بكلمة واحدة ...
شربا الشاي المختمر, على عجل ثمَّ انصرفا إلى حيث يكون الاجتماع.
كان من المفترض أن يكون التّجمع في البيدر الذي يقع خلف تلَّة القرية من جهة الغرب...
تحدَّثا طويلاً, تارة وعيداً، وتارة أخرى تذمُّراً من مجرى الأحداث اللاحقة, حتى أنَّهما تخيلا بأنَّ كلَّ شيء بات على ما يرام, وأنَّ ذلك المرابي قد خضع لمطاليبهم, بفضل تلك الجمهرة أمام باب بيته الحديدي.
وصلا أخيراً إلى المكان الذي بدا فارغاً بكلِّيتهِ, أنا لا أرى أحداً قال الحج صالح الذي ارتسمت على وجهه علامات الغرابة...
أين هم الباقون, أنت قلت بأن الجميع سيكون هنا في هذه السّاعة...
كان على خلف أن يسيطر على الوضع بتأفف غاضب أراهن بأنَّهم مازالوا مع زوجاتهم في السرير..
سننتظرهم, تعال نجلس على هذه الصخرة.
جلسا على صخرتين متقابلتين, السَّاعة كانت تشير إلى التَّاسعة حين نظر إلى ساعته.
تحدَّثا مطولاً, تذكَّرا أيَّام الشباب, عرَّجا على الوضع السياسي الذي كان يسود البلد...
اختلفا وراء تلك التلّة, فكل منهما ينتمي إلى تيار معين توارثه عن والده, كما يتوارث الأبناء الآباء في ممتلكاتهم.
عقارب السَّاعة تدور بلا هوادة, إنَّها تشير إلى الحادية عشرة.
خلف بالله عليك ربَّما أخطأت في مكان التّجمع, أو ساعة اللقاء, قال الحج صالح بتأفف, ألا ترى بأنَّنا مازلنا هنا وحيدين....!
لا أدري ماذا أقول لك ولكنّني أقسم بأننا كنَّا عشرة رجالٍ, اجتمعنا في بيت (سليمان درويش) واتّفقنا على أن نجتمع صباح هذا اليوم, في هذا المكان ثمَّ ننطلق منه إلى ذلك المرابي.
انتصف النَّهار, أصبحت الشَّمس في منتصف الفضاء السَّماوي.
نهض الحاجُّ من مكانه بتثاقل, هيا يا خلف لنمضِ إلى بيوتنا, فأنا أكاد أشتمُّ رائحة الدجاجة التي ذبحتُها من هنا.
ما رأيك أن تتناول غداءك معنا اليوم, أنت تعلم بأنّ أختك أم سربست تبذل جهدها ليكون الطعام شهيَّاً وخاصة الغداء, إنّها تؤمن ولا أدري من أدخل الفكرة في رأسها (بأنَّ أسهل طريق للوصول إلى قلب الرجل هي معدتهُ) مع أنني أحبُّها ولكنّها دائمة القلق حيال هذا الأمر.
يلفُّ شحوب الموت خلف, لقد أصبح مثل بلبل حائرٍ, لا يدري أين يحط, يخشى إذا ما أقفل راجعاً أن يأتي الآخرون ولا يجدونه... وإذا مكث هنا أيضا, أن لا يحضر أحدٌ, والشَّمس لهيب يفرش السّماء, ثمَّ غدا أخيراً كهرَّةٍ على سطح صفيح ساخن, التهب غضباً وغيظاً وهو يقول:
منذ متى كان لنا اتفاق حتى نتفق اليوم, ثمَّ لفظهما البيدر وأقفلا عائدين, كلٌّ منهما إلى بيته, ظلَّ الباقون منشغلين بأمور ربَّما كانت أهمّ من ذلك...