الشره
يود لو توقف قارب الزمن العنيد .
وتعددت ضربات الحظوظ لينال مبتغاه .
يخلولنفسه .
يدس رأسه بين طيات الحلكة . يفرش الأرض يؤثثها
. يفترش صفائع الأمل المتوهج .
يمتع العين ويمنيها بتدفق سيل المال الوفير .
أخذ مبادئ العد والإضافة من والده الذي بث فيه تقديس المال
وحب الحياة القائمة على الأخذ ثم الأخذ والادخار .
كان والده يعرف بين قومه " باليابس " وهم يطلقون عليهم "أبناء وحفدة اليابس" .
انسجم في تصرفه مع هذا اللقب . وكان معجبا بتدابير أبيه ،
أصبح نسخة مطابقة لسلوكه .
ولما اقترن بزوجة نشأت بوسط مغاير .
تمسك بمواقفه ومبادئه ، ووقفت هي على مسافة من طبعه .
تداريه ،
تحاول التخفيف من حدة حرصه ،
ومبالغة انغماسه في أتون اللهفة والشره ..
توالت حلقات النقاش .
سرت بعض تفاصيلها عبر شرايين الخلاف إلى خارج البيت .
أصدقاؤه وأهله يعلمون أنه اتخذ لنفسه صندوقا حديديا محكم الإقفال .
يؤمنه على كنوزه النفيسة ونقوده المدخرة .
يراجعه يوميا ،
للترتيب والتصنيف ونفش الأوراق المالية وبعثرتها قبل رصها وبنائها .
خلالها يشعر بنشوة تسري عبر رؤوس أنامله
وهو يتمسح بأديم الرزم وكتل النقود المتراكمة بقعر الصندوق .
يعتقد أن أطياف السعادة في طريقها إليه .
وجحافل الفاقة تودع بلا أمل في الرجوع .
مخيلته تعج بأصناف المشاريع المدرة لأكداس من المال ،
حدث نفسه بإنشاء مخبزة ثم عدل عنها لضآلة دخلها .
وحدثها بالاتجار بنفائس الآثار ينقلها من بلد إلى آخر بشاحنة خاصة .
ثم تخلى عنها لخطورة العمل بالطرق ليل نهار .
وحدثها بإدارة مكتب للصرف يتداول العملات بمختلف أنواعها .
فخشي تعرضه لهزات متأثرا بتقلبات الأوضاع المالية والاقتصادية ،
فتضيع أمواله في لمحة بصر .
خبت نفسه وتوارت .
بقي بدون قرار ، موزعا بين اكتناز الأموال أو استثمارها .
حان موعد تناول وجبة العشاء .
رتب أغراضة وأصلح هندامه والتحق بقاعة المائدة .
بعد الأكل وتتبع بعض الأخبار الرياضية والسياسية . ومراقبة إنجازات الأطفال ،
عاد إلى سريره ليستسلم لنوم عميق .
رأى خلاله امتداد أياد متشابكة لأطفال صغار
انتزعت قفل الصندوق وفتحته وأخذت من أمواله .
نهض مفزوعا .
أعاد عد مدخراته فتأكد من صحة ما رأى في المنام .
أطفال اختلسوا ماله .
مكث مذهولا .
تسري عبر عروق جسده تيارات حارقة .
تنعكس آثارها على محياه ، فيصطبغ بالحمرة حينا والصفرة أو السواد أخرى .
قبل انبلاج نور الصباح ، طاف بين الحجرات يفتش الألبسة والمحافظ والجيوب .
رجع مكسور الجناح مكلوم الفؤاد .
تردد كثيرا قبل إخبار زوجته برؤيته ونتائج فحصه .
- إنه مجرد ضغث حلم . ... بسمل وتعوذ وانس ما رأيت .
- والمال المفقود من الصندوق ، أخذته الأضغاث ؟
- قلت : إنها أياد صغيرة رأيتها امتدت لنهبه .
- هلا استودعتها إحدى البنوك واسترحت ؟
- البنوك أتهيب فضاءاتها . أخشى من التعامل معها وأتحاشاه .
- أرى أن تترك أمر البحث لي وتلتحق بمتجرك .
سرى في البيت وجوم مطبق .
كل منهما يحلق في دوامته .
هو متيقن مما راى . رأى أياديهم تختلس ماله . وهم الخادمة وأبناؤه .
هي تحاول استنطاق تصرفات بعض الزوار من العائلة .
وجدت يوما أخته الصغرى وراء مكتبه الخاص ..
ادعت أنها تحضر بعض واجباتها ..
أثار انتباهها ، في يوم آخر، ولدها الأكبر فاجأته يتصفح أوراقا تخص أباه بدولب المكتب.
..وسط دكانه قبع مهموما يطمع في التخلص مما حمل معه من البيت .
يتحامل ويتظاهر بالتماسك .
لكنه انهزم امام هول الكارثة .
فانساق مع سيول الذهول التي أشلت حركته وتفكيره .
عاد إلى البيت رغبة في العثور على ما يخفف من وطأة مصابه
الذي يهد طموحه ويهدده بالغرق في وحل العوز .
لا يجد رغبة في الطعام ولا لذة في الراحة .
أوى إلى سريره بعد أن خلع جسمه منه .
وألغى المسافة بينه وبين هواجسه .
بعث ما بقي منه سحابا كثيفا لف البيت ومن فيه .
وكسا الفضاء رداء قاتما أخفى المعالم وستر رتب القرابة والانتماء .
احتضن الصندوق .
يعيد عده بين الحين والآخر .
في كل مرة يأمل أن يكون قد أخطا في الأخرى .
تنازعه رغبات ملحة ، ولا يدري بأيها يبادر .
أيبكي لينفث حسرته مع دموعه ؟
أم يصيح لتفيض ضغوطه ويستريح من ضيقه ؟.
أم يقهقه عاليا لإبداء الشماتة من إهماله وغفلته .؟..
افترش دراعيه على ظهر صندوقه وتوسدهما بذقنه ،
أخذ يستعرض تفاصيل الحلم اللعين . عله يتبين معالم المتسللين .
زوجته متأكدة من العثور على مسبب الكارثة .
ستكد ليل نهار حتى تكشف الحقيقة .
يصدقها مجاراة واضطرارا .
سيتعلق بخيط الأمل الرفيع الذي مدت ،
وهو يعلم أنه أدق وأوهن من غبار الهباء السابح حول رأسه .
اللهب متأجج في جوفه يذيب عروقه .
يتطاير عبر نظراته جمرا مشتعلا تؤججه ألسنة نار محرقة .
عناقد اشعة الشمس تطل من وراء الستار .
تشاركه فواجعه .
تبعث تحية مخطوطة بمداد الشفق الجريح .
بسرعة البرق حط الليل رحاله .
الهذيان يتربص به ليسقطه مغشيا عليه .
تخلى عن كل عاداته بالبيت لا يهلل لمنتصر ولا يحزن لمنكسر .
حملت الزوجة الخادمة إلى بيت أهلها .
ووضعت الأبناء تحت رعاية جدتهم .
عند رجوعها وجدته استسلم لنوم عميق .
من مكانها تتابع أنفاسه الممتالية .
تخشى من تطور أعراضه إلى إصابات مرضية خطيرة .
تود لو تستطيع اقتراض مبلغ مالي ، وتدعي أنها وجدته ضمن أغراض الأطفال ،
طمعا في إنهاء معاناته .
الهزيع الأول من الليل على وشك الانصرام .
الضوء خافت .
أنفاس النائم تتدفق بانتظام .
فجأة أزاح عن جسده الغطاء .
نهض قائما .
لم تكلمه زوجته .
ظنته يرغب في مرفق صحي .
التفت يمنة ويسرة .
قطب جبينيه ،
عض على شفته السفلى ،
أخذ يمشي على رؤوس أصابعه .
توجه نحو صندوقه
.. فتحه ..
أخذ ورقة مالية ، واخفاها تحت منامته
ثم رفع غطاء قناة صرف المياه بكوة المدخنة ،
والقى بالورقة لتنساب مع الريح إلى البهو .
عاد بنفس المشية والهدوء ، ليتابع نومه .
استغربت ما حدث ..
انتابها فزع غريب .. مروع ..
تماسكت وأسرت المفاجأة في نفسها .
مع إطلالة الصباح الجديد ،
دلفت على عجل إلى قاعدة المدخنة بالبهو .
عثرت على أوراق مالية متناثرة .
عبثت بمعظها القوارض ، وتغيرت معالمها بالرطوبة والبلل .
تركتها كما هي .
أعاد هو الحركة نفسها أثناء نومه ليومين متواليين .
تأكدت أنه هو الذي يختلس أمواله أثناء نومه دون أن يدري أ ويشعر .
بشرته بتوصلها إلى معرفة ناهب مدخراته ..
تهلل وجهه ولم يصدق ،
حتى وقف بنفسه على أكوام بقايا الأوراق المالية بركن البهو .