متلازمة نقص التواصل الإنسان
خيال علمي
د.م. ميادة ضاي
"قلم جميل" حدثته نفسه بفخر, قلَّبه بين أصابعه: إنه سر تقدم البشرية, نعم !
إنه القلم الذي سجل ونقل أفكاراً وخبرات وقصصاً شتى عبر الأجيال, تكدست تراكمياً المعرفة من خلال فعله السامي, وأدت لهذا العالم الفريد الذي يعيشه.
القلم الذي نسيه بنو جنسه في زحمة المؤثرات, وغمرة وسائل الاتصال السمعية والبصرية.الصورة لها قوة, قوة تختصر عشرات الكلمات المكتوبة ,سيما إذا كانت صورة متحركة مع صوت, بيد أن الكلمة المكتوبة لها سر يشبه عبير وردة ,أو مرور نسمة ,أو هديل حمامة ,لا تعرف أين يكمن سرها, ولكنها تملك ذلك الوقع الأثير في النفس, فتحسها ,ولا تدرك لماذا لا تستطيع توصيفها. فقط تشعر بها كنبضة قلب أصابه سهم الحب, ليست نبضة عادية تضخ الدم للجسم, بل نبضة تضخ الروح في الإنسان.
أراد أن يرد لتلك الأداة النبيلة دورها الرائع في حياة البشرية, فقرر تصنيع جهازه الجديد بشكل قلم يوضع في الجيب يعتز به لامتداده ضارباً جذوره في التاريخ رغم صغر حجمه.
وضع مولد "السطح الكهرطيسي النانوي" الذي اخترعه في أسفل القلم .ذلك المولد الذي يقوم بترتيب الجزيئات دون الذرية بشكل مستو مما يشكل حاجزا ًشديد الرقة, وفائق القوة والتماسك. ثم زود القلم بالشرائح الالكترونية شديدة الصغر و التي تعمل بالأوامر الصوتية ,كما زوده بنافثات إشعاعات ضوئية تضفي الإيحاءات اللونية المختارة.
كان قلمه الصغير المدهش يعمل عمل كل الأجهزة التي تجعل الحياة أسهل , فما يكاد يعطيه الأمر الصوتي "تلفزيون" حتى تترجم الشرائح الالكترونية الأمر للمولد, فينتج جهاز تلفزيون حسب المخططات, ولكن ليس من مادة ملموسة, بل من آلاف القطع المكونة من حواجز كهرطيسية.فقد استطاع تطوير التجارب, التي كانت تجرى من أجل بناء جدران من هذه الحواجز, حتى استطاع التحكم في أبعادها.وضعت مخططات كل الأجهزة من كومبيوترات, ولواقط دش, ومكيفات وأجهزة تنقية الهواء وتزويده بالأوكسجين والرطوبة المناسبة مع تزكيته بالروائح اللطيفة, التي كانت تنتج آنياً بمصنع مصغر من مواد أولية موجودة في الجو.وطبعا ًذلك المصنع مخططاته مخزنة بالشرائح ,أما مادته فهي الحواجز الكهرطيسية,وغير ذلك من الأدوات التي تخطر على بال إنسان.
وكان من أطرف الشرائح "المطبخ" الذي كان يحضر بلمح البصر الطبق الذي يذكره صاحب القلم من مواد مصنعة من صيدلية المعادن والفيتامينات والتي تؤمن تركيبة غذائية لذيذة وصحية, وحتى لو قاربت الصيدلية على النفاد ,يقوم القلم بطلب شراء الكتروني ,وعندما يتم التسليم ,يقوم إنسان آلي مصنع آنياً بوضعها في الصيدلية.
كان يكفي صاحب القلم أن ينطق بطلبه فينفذ. كأن مصباح علاء الدين ملكه, ولكن لينفذ له ما يشاء ,وليس ثلاث أمنيات فقط.أيريد بيتا؟ ما عليه إلا أن يذكر أوصافه, فيبني له قلمه العجيب ما أراد. أو بإمكانه أن يختار نموذجاً مطابقاً ,أو معدلاًً ,فيحصل على مبتغاه.
كل ما يتمناه ملك يديه,مفروشات وأجهزة ووسائل ترفيه,ووسائل اتصال مع العالم الخارجي,حتى عمله صار يتمه بكامله عبر قلمه وهو قابع في منزله.
لم يقنع بمجرد العمل عبر القلم,بل صارت كافة فعالياته الاجتماعية تتم عبر قلمه الجميل. مشاهدته لأفلام السينما كانت تتم بلحظة, بكلمة, فيصنع القلم صالة عرض ,وفيلماً, بل وجمهوراً متفاعلاً أيضاً.وليس أي جمهور,إنه جمهور متوافق نفسياً معه,يبهجه بردود أفعاله.
سفره كان يتم عبر قلمه, بنمذجة الأماكن السياحية بواقع افتراضي, يؤمن كافة النشاطات والمتع بل ,والروائح, والظلال, والمناخ,وإن رغب ,يتعامل افتراضيا مع سكان البلد الذي يسافر إليه ويتحدثون معه بلغته.
ومرت السنون .وذات يوم استيقظ ,وقد تكرس إحساسه بالضيق,أمسك القلم وتأمله.لم يحس أنه يرغب بالعمل. حاول كسر روتينه ليجاوز ملله. طلب طعاماً كورياً ,وجواً مغربياً, وملابس كاوبوي, وعطراً فرنسياً .ثم سخر من هذه التوليفة غير المتجانسة ولم يأكل. بل قرر السفر .وضع يده اعتباطياً على نموذج الكرة الأرضية .وذهب للنقطة المختارة, ثم أراد شيئاً من التغيير فطلب سكاناً يمشون على أيديهم ,أحس بسخافة رغباته .فجأة بدل وجهة سفره إلى القطب الشمالي, وجد نفسه في القطب البارد وحيداً. أحس بالبرودة تسري في أوصاله, رغم أن ملابسه مدفأة ,فطلب امرأة تؤنس وحشته,وفي الحال ظهرت حسناء انتقاها من الكتالوج, وبدأت بمحادثته بما يحب ويرضى,مبرمجة خصيصاً لإرضائه,ولكنه يعرف في قرارة نفسه أنها طيف وليست إنسانة حقيقية مثله,فألغى ذلك كله.
رجع مباشرة لبيته المختار, وهو يحس بتوعك شديد. لم تمض لحظات حتى التمعت أضواء الإنذار الصحي ,فقد كان في قلمه ماسح متصل بكومبيوتر مركزي صحي ,يتابع عمل جسمه في كل لحظة .وما لبثت أن ظهرت صورة طبيبه الافتراضي ,وهو باسم, ويسأله عن أحواله. وكان هذا الشكل مبرمج ليمنحه الهدوء والثقة حسب تركيبته النفسية.
قال له :ليس بي مشكلة. لكن الطبيب أخبره: أنه يعاني"متلازمة نقص التواصل الإنساني ".ذلك المرض ,الذي انتشر كالهشيم في النار ,في ذلك العصر .
ذلك المرض ظهر بسبب القلم, الذي وفر للإنسان كل ما يحلم به بدون عناء, وبمفرده بمعزل عن العمل الجماعي, وهو مرض العصر وعلاجه ليس دوائياً بل سلوكياً.
أيعقل هذا؟ أيفقد قلمه وظيفته القديمة في تفعيل التواصل البشري.
صار قلمه الجميل وسيلة اتصاله مع الآخرين سابقاً هو سجنه , وسبب عدم اتصاله مع بقية البشر, وسبب بقائه أسير نفسه وأحلامه, التي صارت تبدو تافهة شيئاً فشيئاً لتحققها مباشرة,بدون جهد وبدون عمل ,حتى بدون زمن يتمناها خلاله.
حاول أن يتواصل مع البشر,بحث عن شخص يحدثه وجهاً لوجه فلم يجد. وبحث في مواقع الإنترنت ولكنه وجد المنتديات خاوية ,كان خائفاً , وفاقد الثقة بنفسه ,يخشى أن لا يتقبله الآخر. ولكنه استجمع بقايا شجاعته, وبحث بإلحاح عن إنسان يتواصل معه, إلى أن وجد شخصاً رضي أن يحاوره ولكنه تراجع في اللحظة الأخيرة,ربما كان خائفاً!!!
هل من المعقول أن ملايين البشر, وألوف المرضى ,لا يحاولون كسر هذا الطوق غير المرئي؟ في النهاية صار سجيناً للأداة التي كانت وسيلته للتواصل, فصار سجنه " نقص التواصل الإنساني