التحدي الصعب
وجلتِ القلوب لصدمة الفقدْ، هدأ المكان والوجوه تجفلُ على حزنها، المقاعد تذرو كمدها صمتاً، وقفت السيدة الفولاذية وقلبها المنهار لا يخفي وجعه، سكبت عيناها دموعاً حرى على فتاة غضة يافعة، اكتسبت حب الجميع وغادرتهم فجأة ،برعمةً متطلعة للأفق البعيد، كانت آمالها ممتدة غير متوقعة النهاية القريبة... بكت مديرة الأكاديمية وأبكت معها جوارح وأعين كل الحاضرين الذين شاركوها الترحم على روح الشابة الفقيدة ،وقرأوا معها سورة الفاتحة.. تتأمل نفسي تلك الروح التي حملت تفاؤلها نوراً ويقيناً، وشدت له عزم المؤمنين القانتين حتى وهي على مشارف الغياب، لم تضع الموت كنهاية قريبة، في قراراتها كانت تأمل الشفاء.
تستحضر ذاكرتي تلك القصة عن التفاؤل، حين ينظر الإنسان لمحنه بمنظار التقبُّلْ والتوقع الايجابي، بقعة النور التي تومض وسط العتمة، وتلاحقها العين كمنفذ للأمل، والقصة تقول أنَّ محكومين دخلا السجن، وسط الزنزانة، التفت السجين الأول إلى السجين الثاني وسأله قائلا: كم ستمكث في السجن؟ أجابه الآخر: سأبقى يا صديقي عشرين عاماً
فقال الأول بتفاؤل كبير: إذن ضع سريرك قرب الباب لأنك أنتَ أول منْ سيخرج، أما أنا فسأبقى هنا أربعين عاماً!!
قلت في نفسي : طبعا هذا تفاؤل بلغ الذروة ،لكن الأمر مع عائشة بدا تفاؤلا مثاليا، بل مقدسا يشبه إلى قدر ما مع مافعله النبي نوح عندما كان منهمكاً في غرس الشجيرات، وجاءه الملك يخبره أنَّ ساعة موته حانت فلم يتوقف عنْ عمله خوفاً من القادم، بل استمر في غرس الشجيرات، وبفضل عزمه هذا كوفئ بسنوات طوال مدت في عمره.
عائشة وهي تعاني سكرات الموت على فراشها، وقد ازدادت عليها آلامها ووهنت بشدة، علمت من صديقتها أنَّ امتحان البكالوريا قد فاتها، فطلبت مِنْ أهلها أنْ تجري الدورة الاستدراكية، فسألها أحد الأطباء:
- لمَ تُصرين يا ابنتي على نيل شهادة البكالوريا وأنت تعرفين حالتك المرضية ، فماذا ستنفعك الشهادة في ظروفك هذه؟
.أجابت والدمع يترقرق بعينيها الجميلتين: سأهدي نجاحي لأمي وأبي ليعرفا كم أحبهما!
لم يستطع الطبيب أنْ يحتبس دموعه، بكى رغم أنَّ مهنته علمته الجلد، وانتابه الندم الشديد لسؤاله!
واصلت عائشة إلحاحها بصوتها الواهن على تأدية الامتحان، فتناهت ذبذبات صوتها بسرعة البرق إلى أذن المديرة السيدة التيجانية، امرأة عظيمة تحمل قلبا إنسانيا كبيرا ورحيما، قال:::
- لن اسمح بنقلها وهي في حالتها المرضية تلك إلى الثانوية فصحتها لن تحتمل، بل سننتقل إليها في المستشفى، والامتحان رهن إشارتها.
تشبثت عائشة بأوراق الامتحان كما لو كانت تحمل شيئاً أثيراً إلى نفسها، كانت تصارع الألم وتتحدى الأنابيب الطبية الموصولة إلى جسدها الضئيل الواهن، تملي على الفتاة المكلفة بالكتابة نيابة عنها، وعندما تستشعر تأخرها في كتابة ما تمليه، كانت تنهض متثاقلة تئن بوجعها متحدية تلك القيود التي تشدها إلى سرير المرض، فلا يكون بدٌ مِنَّ القرطاس إلا أنْ ينصاع راضخاً لها، والقلم يتحرك بين أناملها باكياً حبراً نيلياً، فلا يسع زميلتها إلاأن تبكي حزناً للمشهد، وعجباً للعزم الذي ما زال يعبئ عائشة بالأمل، تتحدى الموت لتترك أثراً خالداً يحيا في الجميع
كانت عائشة تنتظر نتيجتها والحلم يراودها بالنجاح ولسان حالها يبعث استجداء خالصاً لله
أيها الزمن أرجوك أوقف عجلاتك عن الدوران.. يا عقارب الساعة كُفِّي عن الجري لتمنحيني بضع ساعات أحصد فيها فرح البشرى، أرجوك الهي لاتاخذ روحي قبل أنْ أتذوق حلاوة النجاح، أريد أنْ أتحسس الفرح مشعاً في عيون والدي ووالدتي، في الماضي كان هذا حلمي أمَّا الآن فهو حلم أورثه لوالديّ، لطالما استشعرت نفسي عروس حفل النجاح بالثوب الأبيض المزركش انتشي بزغاريد أمي وجاراتنا وقريباتنا، يغمرني الجميع بقبلاتهم وتهنئاتهم وابتساماتهم، يغمروني بهداياهم التي تروقني وتدخل البهجة لقلبي المتباهي بالنجاح.
أسارع إليهم بأكواب المشروبات الغازية والحلويات، والابتسامة تنفرد على مبسمي بكل ألق الأنثى التي تنتظر مرحلة ما بعد النجاح، وأسمع من ضيوفي عبارات التمني بإتمام الدراسة والزواج الهنيء، فترتخي أهدابي خجلاً وتتورد وجنتي تأثراً، ويمطروني بأسئلتهم التقليدي: :
- في أيِّ جامعة ستكملين الدراسة.. وفي أي تخصص؟
- هل سترسلين طلب منحة لفرنسا؟
- ليتك تختارين كلية الطب...أو معهد الصحافة أو...أو...
هذه مجرد أحلام راودت عائشة وهي جسداً مسجى مريضا، تتقلب في يقظة الموت,
أصرت السيدة الرائعة الناظرة أنْ تنقل خبر نجاح عائشة قبل أنْ تعلق النتائج على أبواب المؤسسات التعليمية ، تناولت سماعة الهاتف بعجالة ونقلت البشرى الجميلة لوالدها فقد حققت عائشة النجاح بميزة حسن، ما أن تنبهت عائشة لرنين الهاتف حتى انشدت كل حواسها لمصدر الصوت، وسمعت وقع أقدام تقترب من الباب، فدق قلبها معزوفة الرهبة، فتح والدها الباب والابتسامة تملأ وجهه فبادلته بمثلها وهي تتوقع الخبر السعيد، حاولت النهوض لكن قواها خانتها هذه المرة فانسلت دموعها لا تدري أهي دموع الفرح أم دموع نجاحها بالتحدي وقهر إرادة المرض
- مبروك عليك حبيبتي النجاح بميزة حسن. وارتمى على يديها يقبلهما كما لو كان يشكرها لهديتها إنما أين لدموعه أن تغالبه فقد راح يبلل يديها بدموعه الطاهرة، فأمسكت يده الحنونة وقبلتهما وهي تشكر الله أنْ منحهما كل هذا الفرح، دست كفه تحت خذها الأيمن تستأنس طعم هذا الكرم العظيم،
يا ملائكة الرحمان رفرفي عالياً لتحيطي هذا الحب الأزلي بعنايتك. رباه اقذف قبسا من صبر أيوب في قلب هذا الأب.. بغتة تدخل الأم فتقع تحت تأثير المشهد فتفقد قدرتها على التماسك، وتنتحب بقوة عند رؤية هذا التقارب بين الحبيبين خشية أنْ يفرق الموت بينهما، تمسك ابنتها من يدها الأخرى وتقبلها وهي تبكي فرحة، فتفاجأ بأنْ اليد الصغيرة مرتخية فيما السبابة كانت مرفوعة للأعلى وهمساً كأنه العزف يخرج من بين شفتين يتغير لونهما
- أحبكما، أشهد أنَّ لا إلاه إلا الله وأشهد أنَّ محمداً رسول الله
وحلق نورٌ في المكان كان ساطعاً بثقل فرح التركة التي منحتها لوالديها قبل أن تحمل روحها الهانئة إلى برزخها هناك لدى ملكوت السماء.
ماتت عائشة.. حلقت روحها بالمكان تاركة جسداً بارداً لشابة صغيرة لم تمسسه يد الإثم بعد.. تركت خلفها حكاية تحدي لنْ يغفلها كل ذي لب، لتصبح أسطورة بل قدوة للإرادة والأمل الذي لا يتساقط بتساقط الجسد .. هي روح التفاؤل ليس فقط لتحدي الصعاب بل لرسم الجمال خلفها بعد الرحيل من الحياة.. ولتبقى حية في قلب كل تلميذ وتلميذة ،في عين كل أستاذ وأستاذة ،خالدة في ذاكرة كل من مسه الضر واستسلم لسلطة المرض, ولم يفتر لساني عن ترديد كلمات :أعائش مهلا بعد هذا التفاؤل أعائش طيبي وقري عينا، ولترقد روحك بسلام آمنة مطمئنة وليدم عزمك قدوة يقتدي بها كل من خالجه اليأس وتملك منه التشاؤم، وغلبته الشدائد.