________________________________________
________________________________________
عتيقة بنعزيز
بسم الله الرحمان الرحيم
خط العدل آخر لمساته بوثيقة النكاح...وهو بذلك قد انتزع آخر خيط يربط تلك العصفورة المغردة من عش الأبوين...وسيحملها قارب الزواج بشراع الحب المزعوم إلى بيت حبيبها.
طأطأت غالية رأسها وعلت محياها حمرة الخجل' ثم تسللت لغرفتها تحت وابل من الزغاريد والأهازيج وكل ذرة بكيانها تزغرد من النشوة لاقترانها بسعيد ،فقد دفنت ولعها به أياما و شهورا وجفناها لم يداعبهما النوم....شوق الغرام تملك قلبها وأسر عقلها ودب بين أضلعها....علي هو رجلها التي تطرب أذناها عند التقاط اسمه وتتكهرب يداها كلما صافحته ،والعين تغرق و تذوب في بحر الحب وهما يتبادلان كلام العيون فتستشعراطرافها تسبح في آفاق السعادة.
أقبل عيد العشاق أهداها وردة حمراء.....أمسكتها بيدين مرتعشتين....طبعت عليها قبلة....اشتمتها بفؤادها قبل أن تدخل عبقها من أنفها الدي استنكر كل رائحة الا روح الحبيب.سكرت بخمر الحب، تمايلت وكأنها ترقص من الطرب، اقترب منها سعيد وهمس لها :
أنت القمر في دجاي وشمس ساطعة في سمائي....
أطلقت آهة اهتز لها كيان سعيد وقالت: رأيت حبي في عينيك عصفورا محبوسا بين جدران مقلتيك....سجينا يأبى فراق سجانه ...عاشق حرية يرفض مغادرة قضبان زنزانته......سمعت حبي في قلبك نبضات تصدح بسيمفونية الحب لا يسمعها الا كل عاشق ولهان.
تحقق الحلم بعد شهور كأنها الدهور.....أقيم العرس احتفاء بقلبين تحابا حبا عنتريا وقيسيا.....حضرالمدعوون من كل فج عميق ،يتأبطون هدايا ،كل حسب ما استطاع إليه سبيلا...أما الأب فقد افرغ جيبه وأثقل كاهله بدين لن يتملص منه حتى آخر رمق من عمله...لاباس، فلإسراف في الحفلات هو موضة العصر... وسيتكلم المدعوون ...ستتغامز النساء...تهمس امرأة وقد غطت فمها حتى لا يقرا فضولي الكلمات على شفتيها:
الطباخة: لم تحمر الدجاج جيدا والحلواني لم يقم بحشو كعب الغزال باللوز بل فقط بالكاكاو الممزوج بنكهة اللوز، انه زمن الغش.
تجيبها جارتها وهي تصلح هندامها وكأنها تتعمد إبهار كل نساء الحفل بدمالجها وخواتمها :....المسكينة لاتظن أن الكل يعرف انه الذهب الفالسو . لم تعجبني هده النكافة فنفسها مقطوع ...والتكاشط قديمة يشويني فيها نكافة.
يرقص الحاضرون ويترنمون على موسيقى الشعبي والعصري تؤديها فرقة الجوقة.....أما الجيران المساكين الذين لم ينلهم نصيب من الدعوة فالجفى والسهر حليفهم ،ورائحة الطعام تداعب أنوفهم وتدغدغ معداتهم.....
عاشت غالية مع زوجها أحلى أيامها..........مرت شهور المشمش...لم تفارق السعادة عشهما.. رزقا بطفلة جملت حياتهما..جاءت الثانية ،بدأ سحاب الحب الزائف ينقشع فسعيد يرغب بشدة في الولد ليرث اسمه...عجلت المسكينة. بالحمل الثالث..قصدت عيادة الطبيبة النسائية وكلها ثقة بأنه الذكر في أحشائها و معظم النساء يؤكدن لها ذلك لان وجهها مشرق و بطنها مكور...على عكس حمليها السابقين.......تصعق بخبر الطبيبة بعد فحص الأشعة
(مبروك أنها عروس جميلة) وتعود لبيتها وهي تحمل خفي حنين وتجر أذيال الحسرة والألم.....فيستقبلها زوجها بابتسامة ماكرة "بشريني اهو ولي عهدي".
تغرس رأسها ببن اضلعها وهي تحاول لملمة جراحها وتفادي غضبه وتقول: ليس بيدي بل الله هو الخالق. فهم قصدها فأجابها بقنبلة من الجفاء الشرر يتطاير من عينيه ...كانت كلماته كسنان انغرست بصميم قلبها: أنت وعاء للإناث فقط....سأتزوج امرأة أخرى... يطرق هنيهة ...تحسبه سيراجع كلامه...لكنه يستطرد قائلا: للأسف فهده المدونة الغبية ستحرمني من حقي الشرعي ،امتعضت غالية من كلامه الجارح ...ذرفت مقلتيها دموعا تناثرت كاللؤلؤ على خديها المتوردين...قالت :لا عليك يامن أحبني ووعدني بان أكون النور الوحيد الساطع في سمائه...سأعطيك الموافقة...و سأنتظر انبلاج الصبح لأرتاح من هدا الكابوس الذي يطبق على صدري.
توقف الزمن عند هدا الحد.....كفت عقارب الساعة عن التمايل..وصل الضغط لفم القنينة، لذلك ستنفجر تماما كالبركان اذا ثار وفار فسيقدف حممه باحثا عن المتنفس.وسيجرف ويحرق الأخضر واليابس, تمنت غالية لو عادت القرون للماضي السحيق وعاشت في العصور الاميسية,حيث كانت المرأة هي من تملك زمام الأمورإذ تجمع كل الرجال الذين طارحتهم الغرام فتصوب على واحد منهم تعتبره الأب الحقيقي لأبنائها. هذه المرة لم يكن الليل طويلا بل مر كومضة برق.حسبت أنها ربما تعيش في حلم بيد أنها تفاجأ بسعيد وهو يرمقها بعيون متلهفة تستعجلها ومن يدري فقد تضعف وتتراجع ,استشعرت بجسدها وهو يغادرها..مشت برجلين مستعارتين...صمت أذناها..تعتم النهار أمام عينيها...تقلص حجم كل البشر من حولها..وقعت بيدين مرتجفتين على القرار..أجهشت بالبكاء فغادرت مهرولة للبيت هناك عبأت نفسها وبناتها للموت .هي النهاية والشبع من الحياة حتى التخمة...أمسكت بناتها...وعدتهن بنزهة ،لكن لو عرفن لاستعرن نعل الغول وطرن به هاربات… .فتيات جميلات كأزهار النرجس.الأولى تتطلع لتدرس وتتخرج طبيبة وهي تعد أقاربها ببراءة الأطفال بمعالجتهم وسائر المعوزين بالمجان ...الوردة الثانية تتمنى أن تصبح معلمة تقضي على آخر عتمات الجهل...ستأخذ والديها للحج بسيارتها الحمراء..رسمتها في مخيلتها....فكيف ايتها الغالية ستقتلين نساء يعول عليهن بلدهن..؟..سرعت الأم وتيرة خطواتها ويداها المتجمدتان قد اطبقتا على يدين صغيرتين ناعمتين.تصرخ الملاك الأول ماما انك تؤلمينني ارجوك , وتقول الثانية انتظري يا حبيبتي حتى يمر القطار فقد انحبست أنفاسي وارغب الان في استراحة . تهاطلت دموع الام و من عيون جالت بها حولها وهي تتفوه باخر كلماتها :وداعا يا دنيا ، وداعا أيتها الأرض بأهلها الظالمين ........... وداعا أحبتي............. يقترب قطار الموت....يدوي صفيره منذرا بموعد الحمام......انه الان عن كثب...ترتعد أطرافها....تضم فلذات كبدها........ترسم أخر القبلات على خدودهما....تصرخ الفتيات: ماما احذري احذري القطار.... ابتعدي ابتعدي ترتمي وقد دفعت بناتها بقوة حتى لا تكع اوتجبن ,خيم الحزن على كل الكون....بكت الاحجار والأشجار وانكمشت الطيور في الأوكار، وصلت قلوب البشر للحناجر، ونطقت الألسن بالاستغفار لها من كل المنابر.....وستبقى قصة غالية خالدة في ذكرى كل امرأة قدرها أن لا تنجب إلا الإناث......كل امرأة عانت من حيف الرجل وتسلطه.....