كنت أوسط أخواتي قبل أن تضع أمي مولودا ذكرا آخرا متوجة ومختتمة مسيرتها الإنجابية بإمتياز.كنا جميعا نقطن بحومة شعبية في قلب المدينة العتيقة .كان كل شئ فيها يوحي بالبساطة والحياة المتواضعة,فأزقتها الضيقة ودروبها الملتوية وواجهات بيواتاتها المتهالكة تشي بذلك وتشهد عليه.بيد لم يكن الأمر كذلك تماما,فقد كانت بعض الدور "الرياض"غاية في الإتقان والجمالية تصميما وزخرفة, تعكس مدى غنى وثراء أصحابها من كبار التجار والملاكين والموظفين الحكوميين الذين أبوا جميعا إلا أن يشاركوا سكان الحومة حبهم لها ونمط العيش فيها مجسدين بذلك أبهى صور التعايش بين الغني والفقر وبين عامة الناس وخاصتهم.
كانت دارنا تتواجد "بقاع الدرب"معروفة لدى الجيران ببابها الكبير المصنوع من خشب الأرز,الذي دقت عليه مسامير ذات رؤوس قرصية الشكل,رصت ببالغ الدقة والهندسية,يتوسطه بويب علقت عليه صفيحة نحاسية على هيئة أصابع اليد الخمسة ,تعمل عمل الجرس الآن وقد يراد منها درء كل هامة وحصنا من كل عين لامة أو ربما لابعاد الحظ السئ,لا يلج منه أحد معتدل القامة إلا وحنى مرغما أو تواضعا رأسه انحناءة احترام وتقدير لأهل المكان.
لقد كانت دارنا من الدور "لكبيرة",لا تكاد تخلو مضايفها من الاصدقاء والأقارب,لطالما لعبت بفنائها الرحب وجريت بين حوضها المائي وشجيراتها المثمرة,وكم نفقت من الساعات الطوال بقبوها أعبث بوقتي وبكل شئ طالته يدي من أواني قديمة وأدوات "خردة".كانت الأوامر في الدار فوقية ولا أحدمن الابناء يخالفها,حتى نعيمة كبرى أخواتي لا تجرؤ على إبداء الرأي فيها أو مناقشتها.كانت نعيمةتقوم بأعباء البيت كلها مثل أمي وإليها يعود تدبير شؤون البيت أثناء غيابها,لكنها كانت دوما تغضب كثيرا وتشتكي يومي التصبين وتوضيب محتويات الدار كلها.غالبا ما كانت أمي تهدئ من ضجرها وتذمرها وتدعو لها ب"ولد الحلال".دعاء لم يستوعبه عقلي الصغير ولم أتبين مقصديته إلا عشية يوم جمعة.حل بدارنا يومها نسوة لم يسبق لي أن رأيتهن من قبل,يصطحبن معهن شابا ظريفافي كامل أناقته,تبدو على محياه حشمة تعلوها ابتسامة رقيقة.بدت الحركة غير إعتيادية بالدار كما بدت نعيمة هي الأخرى مهتمة بمظهرها وزينتها على غير عادة.أمرنا نحن الصغار بالإنزواء بإحدى الغرف الخلفية وطلب منا إلتزام الصمت والهدوء التامين.منبهرا بها وبجمالها.نظرتني وتبسمت ابتسامة كادت تنقلب إلى ضحكة كما لو كان سرها أن يختلج قلب أخيها الصغير بمثل هذا الشعور.وجدتها جميلة عشيتها وأجمل يوم زفافها.لكنني لسبب ما كنت أتضايق من هذا الدخيل ومن كثرة تردده علينا.لم يكن هذا مني ,لأني لا أحبه أو لعيب فيه,بل لما يلقاه من حظوة وفائق عناية من طرف أبوي وخاصة من أمي التي كانت لا تجد حرجا في التمادي والمبالغة بالترحاب به وبخدمته.أحيانا كانت تذهب بي الظنون إلى أبعد الحدود ,لا تبددها إلا رضاء الوالد ومباركته لهذا الوافد الجديد.لقد استحوذعلى كل شئ جميل في الدار.أحسن غرفة ,ألذ الطعام من دجاج "محمر" ولحم "مبخر "في أواني الفضة وشتى أنواع المشروبات والعصائر في كؤوس البلار.ويا ليت! توقفت الأمور عند هذا الحد .ففي ليلة ماطرة جاءت نعيمة محمرة العينين ,سائلة الدمع على الخدين.ظننا جميعا أن قد أصابها أو زوجها مكروها.سالها الوالد:
مالك؟
فردت عليه الوالدة:
تحاصمت مع زوجها وتشاجرا.
قال:
وتبكي من أجل ذلك؟!.
قالها غير مكثرت وبلكنته التهكمية المعتادة.عندئذ تعالى صراخها ونشيج بكائها كما لو عادت بها الذكريات إلى أيام الطفولة الناعسة المدللة.عملت الوالدة جاهدة على استرضائها وتطييب خاطرها بكلمات ونظرات حانية.في الغد,عادت نعيمة الى بيت الزوجية بمعية زوجها محملين بأشياء لم تمكني أمي من معرفة محتواها .عادا كأن لم يحدث من امرهما شيئا البارحة.كثيرة هي الاسئلة التي تناسلت بذهني حول هذا الوضع الطارئ ولم أجد لها جوابا شافيا إلا عندما زوجت ابنتي البكر.نظرت إلى صهري العزيز يتوسط جلسة عائلية حميمية,تفحصت وجه ابني ممعننا النظر في عينيه المتقدتين وهجا وذكاء,وجدتهما تنمان على نفس النظرة والشرارة لما كنت في منتصف عقدي الثاني .أحسست بموجة عارمة من الضحك تغمرني..,دون أن يلاحظني أحد,وقبل أن يداهمني الضحك,صعدت غرفتي وأطلقت العنان لموجاته المتصاعدة والمتتالية.عبثا حاولت أن أتمالك,لكنني لم أكن أدري حينها أأضحك منه أم من نفسي ؟ حدثتها وقلت لعلها سجية ورثها الأبناء عن الآباء عبر الزمن وزادوا عليها من عندياتهم وبالغوا فيها غاية المبالغة.