في حركة شبه احتفالية ، رفعت ذراعيها بشكل تراقصي يفتح قوسا متصاعدا إلى السماء ليلتقي في شبه استدارة لملاقاة شَعر اسود منسدل على كتفيها و ظهرها ... تأخذه بأناملها الرقيقة و الناعمة ، في اختلاج متداخل يمتلك هذا التموج السمفوني الذي يرفع ستارا عن المشهد الاحتفالي المسرحي لابتسامة تستبين معانقة الأفق بين السماء و البحر ، بين إشراقة اشعةٍ و انعكاسٍ على صفحة الماء الزرقاء ...
يستميل الذراعان لانحناءة الجيد على غابة ملساء .. يكشفان عن إبطين يمتلكان من العذرية ما تخبئه جزر سعادة منتظرة لم تطأها أقدام أنام من قبل ...
و ما تداركته العينان من رغبة حياة لوردة متعطشة لندى الصباح و طربِ طللِه على بتلاتها ، حتى تفوح بعطرها الأرجاء ...
كسمكة سلمون بدأت رحلة الحياة من منابعها الصافية إلى عوالم ملوحة هائجة عريضة ... ، استقبلتها محطة القطار المحتضنة للغريب قبل القريب ... حلمٌ هو ، تنامى و كبُر ... امتلك خيالها و بنى لها قصورا بأبراج قمرية و نوافذ نجمية ، و بهو سحاب فسيح ، ناعم كالحرير ، و وديع لمملكة سرير ... كلما توغلت في فضاء المحطة المبتهج بأضوائه و صخبه و حركته التجارية و الترفيهية ورواده السريعي القبض على زهرة حياة ، في سدرة منتهى يعشقونها أو يصبون لها ، كلما ازداد تمدد الحلم و اتسعت آفاقه و مرافقه ، وانكشفت فيه أسرار خيال جديد أشهى و أرقى بفعل سحر أخّاذ...
كان الحلم قد امتلك السفر و رحلة القطار .. و كان هو من شكَّل عناصره و مشاهده و أحداثه و تطورها و جدليتها ... كان الجسم في رخوته ، و في تفجره على كل أنواع الألبسة الضيقة الملتصقة على بدنه في لعبة مشاكسة تنبلج من خارج القيود و الحصارات ... كان الذهن بأسلحة حواسه ، لعبةَ الصبا التواقة إلى فرح التجربة ، و قطف باقة سعادات الحياة المنتشرة و الموعودة ... ألم يتلاعب الكل بآمالها و عمليات التأجيل المحبوك لها ...؟؟ أصبح الحلم حصانا ماردا يجتر قطار السفر إلى خطوط سكة حديد عارجة ... تركت له الحرية من عنان ، عساه يعوض الحنين باللقاء ... جرح الأبوة أنها تتخلى عنها حين النضج و الاشتهاء ... تصبح مثل الغريبة الحمقاء ... مثل الحمامة أو اليمامة التي حتى إذا ما اكتمل الجناحان في التدرب على رفرفة التحليق ، أودعوها قفصا من زجاج و أسبكوا عليها بحلي و تاج ... كيف ينسلخ الجسد من رداء حب و طفولة ... و كيف يطلب شرنقة جديدة ، و لحافا و رداءً جديدين ... جرح يشرخ الهواء شطرين داخل نفسيتها ... شطر بطعم الحياة الأولى ... و شطر بطعم الحرمان و مرارة الخذلان ...
لم تكن تدري إن كان حلما وديعا ، ذاك الذي أيقظها في ليلة بدر من ربيع ، أو كابوسا هيأ للانفصال برصاصة رحمة و خلاص ... و ما من خلاص ما دام جرحا في استمرار ...
جرح أمومة ربى على الغيرة و نافَس اليفاعة ، و احتج على انتقال طراوة و نضارة ... كيف لا تنسى ضغط الحجب و الستر لمعالم الجسد الذي يريد أن يستحم من عطش بقطرات الماء المبلورة لمعانا بأشعة الشمس في السماء ...
ستة عشر ربيعا ، لم يعترف لها بعد القانون و لا القضاء ... ثقل المنع و تهمة قاصرٍ ، رافقَا موسم التبرعم و الحجب و حراسة المساء ...
كان لها أن تختار فارس أحلامها ، الذي ستركب معه قطارها ... ستكون من المسافرين ، كلٌّ يركب خياله و يمتطي حصانه و خيله ، ويشهق مع سرعة صهيله ، و يطبق للريح المعاكس غابات استوائه و ماضي َ حضنه ...
لماذا هذا الجرح الدائم الحضور ، كهوّة في دواخل النفس لا تنغلق ، كظمأ لا يرتوي رغم الغرق ...؟ لماذا هذا الوجود المرفوق بلعبة دمعة جارحة معذبة لمسام ...؟ و كأن الحنين رحلة ألم ... تعددت الرحلات بين حلم و ألم و فراغ منسي منذ قديم الزمن ... كلما عمَّ الحاضر إلى الاكتمال ، قال : لا ... ما زال نقصٌ يهدد بالعدم ...
بصفة الأب ، و وقار الشيخ ، ورعونة كتفيها المجنونتين في طيران بلا أجنحة ، اختارته في رحلتها الأولى ، شعورا بالأمن في السفر ، و الحب الفطري في النظر ، و اللعب الطفولي الجامح في السهر ... متى تحط الرحال ، ربما ، تعيد تجربة ونظر ... !!! و نظر .