ققنس لأحمد بوزفور:
الكتابة وصناعة المعنى
صدوق نور الدين
مقدمة
تأتي <<ققنس>> المجموعة الأخيرة ل-(أحمد بوزفور) بعد فترة بياض طويلة, أقول بعد آخر اصدار له: (صياد النعام), هذه المدة الفاصلة قد تكون لها مبرراتها غير الممكن التكهن بأسبابها إلا من طرف المؤلف ذاته. إلا أنه يمكن القول بأن كم النصوص المحتواة داخل المجموعة قليل إذا ما قيس بمدة التوقف.. على ألا يغيب عن تصورنا كون أحمد بوزفور يعد من محككي الكتابة القصصية بالمغرب. إنه يكتب النوعي لا الكمي. وهو ما يبرز على مستوى تشكيل القصة القصيرة, وكيفية بنائها. وهذا يعكس السمة التجريبية التي انطبعت/ تنطبع بها قصص أحمد بوزفور ككل, ومنذ مجموعته الأولى: النظر في الوجه العزيز (1983).. على ان عملية تلقي نصوص هذه المجموعة بالذات, يبين عن تفاوت, سواء من حيث المادة او نمط صوغها.. وهذا في الجوهر يجعل الانسجام بين مكونات المجموعة غير حاصل, وكأن القاص بصدد بحث عن المغاير والمختلف, بعد مرحلة شكلية باتت شبه مستهلكة ان لم نقل متشابهة.
فـي الكتابة القصصية:
يمكن القول بأن البناء الذي خضعت له <<ققنس>> يتأسس على قاعدة التشظي.. أفهم الأخير, وفي هذا المقام, كتداخل.. بيد أن الهدف منه التنويع بين الاجناس.
أ/ المتن والهامش:
يغلب على معظم القصص الواردة في المجموعة, كون بنية تشكلها تتألف من متن وهامش, المتن هو المادة المحتواة والمعبر عنها كمعنى منتج, والهامش يتمثل في التفسيرات التي تصاحب المادة.
ان طبيعة التشكل تراثية, على اساس أن أحمد بوزفور يعمل على تجدير الكتابة القصصية الحديثة في التراث.. وهنا يمثل هاجس الشكل بقوة.. اقول هاجس البحث عن الجديد.
ب/ بين القصة
والمقالة والبحث:
إن ما يقودنا اليه التقسيم: متن وهامش, التداخل بين جنسين شبه متنافرين: القصة كخيال مكتوب, والمقالة ككتابة متخيلة فالمتلقي يتكسر أفق انتظاره في الحالة التي يتولى فيها صناعة التفسير القاص ذاته. إنه يجمع بين الحكي وملء الثقوب او البياض الفارغ, وفي صوغ عملية التفسير نقف على:
1/ الذاتي الخالص.
2/ والأدبي في دقته اللغوية وشرطه العلمي.
هذا ما نعثر عليه مثلا في النصوص:
- تعبير الرؤيا.
- ققنس.
- الصفعة.
إن الكتابة القصصية وفق هذه الصيغة تذكر بما ألفناه في النصوص البورخسية, حيث يبدو التداخل أكيدا, وحيث يصعب رسم الحدود بين الخيالي والواقعي.
ث/ الشاعر القاص:
أعتقد وقد أكون مخطئا, بأن قوة أحمد بوزفور وليدة تلقيه /تدريسه/ تفاعله وجنس الشعر قديمه وحديثه. لذلك تبدو نصوصه ذات بناء موسيقي, إلى كون وحدات قصصية وصفية داخل هذه المجموعة بالذات, تنطبع بسمة التوقيع الى حد الرومانسية:
بم تحلم البالرينا? بأن تكون لها أجنحة? بأن تطير?
ربما تحلم بالحليب: ثوبها الأبيض الحليبي, والضوء السائل
المتخثر الأبيض والموسيقى المهروقة كلا, المسكوبة كالحليب. ربما كانت البارينا تحلم بأن ترضع العالم أو أن ترضعه. ربما كانت تحلم بأنها هو وأنه هي.(ص26)
وحين تدخل ناتاشا, تنفرج لها الجموع المحتشدة ويخلو لها جزء
من حلبة الرقص الواسعة تدور فيه كالفراشة بثوبها الأبيض الناصع
المطرز بالدانتيلا والكاشف في أعلاه الضيق عن عنقها الناحل وأعالي
صدرها الناهد. وفي أسفله الواسع المستدير عن ساقيها العصفورتين
اللتين تنقران خشب الحلبة اللامع نقرات العازف.(ص44)
لا تسكت
ابك
لا تبك الأمس ولا تبك اليوم
ابك الآتي
فالآتي لا دمعة في عينيه
والآتي لن يلقى أحدا يبكيه
والآتي مهجور من أبويه. (ص52-53)
ف-ي صناعة المعنى:
إن البناء متن/ هامش, حكاية/ تفسير, لا يلغي آلية التأويل النقدي, وانما يفعلها, بهدف انتاج المعنى, ويمكن القول بأن القصص الواردة في ققنس تدور حول التالي:
1/ الحلم. 2/ الطفولة. 3/ الموت.
هذه القاعدة تجعل المجموعة, أقرب الى السيرة الذاتية الموزعة عبر قصص. فالحلم يتجسد على امتداد أغلب النصوص ويكفي التمثيل ب--:
- تعبير الرؤيا.
- ققنس.
- غيابات القلب.
ذلك ما يهيمن على هذه النصوص الفعل: رأى, بل إن اسناده لضمير المتكلم يتواتر والصيغة:
رأيتني أعمى. (ص7)
رأيتني أولد. (ص34)
أو على النمط التالي:
لم أتذكر الحلم. (ص31)
جاء في المنام وقال لي. (ص49)
سنة خامرته ولم ينم, كصفعة باب
أو كهبة ريح.. (ص55)
ويحق القول بأن تعبير الرؤيا تبدأ حسب تقسيمها بالحلم, وتنتهي بالهوامش التي هي تفسيرات الحلم, فيما ققنس تستهل بالحلم وتتلوه تعليقات الحالم ثم التفسير, وفي الختام تفسير التفسير. وأما غيابات القلب فتبدأ بالحليب وضمنه <<لم أتذكر الحلم>> ليتلوه الحلم فالنمر.
إن الثابت في الكتابة مادة الحلم.. وهو يقترن بالذاكرة كماض يتشكل من قضايا وحوادث ومن أفكار.. هذه تستدعى لتعبر عن زمن محدود ودقيق هو الطفولة, بما هي أهم مرحلة في حياة الانسان. يرد في ققنس:
إن الطفولة مجرة بعيدة. والضوء الذي يصدر
عن احداثها لا يصلنا إلا بعد زمن طويل من
انقضائها, لذلك لا نرى الطفولة حقا إلا في
الشيخوخة, ولا يحس بالطفولة في كل شيء
إلا الشيوخ. (ص24)
لذلك, فان مادة الاشتغال زمنية استعادية. إنها الكتابة عن الطفولة الهاربة, إذا ما أشرنا الى كون ضمير المتكلم يتكسر أحيانا باللجوء الى الغائب بعيدا عن الموازاة بينه والكاتب نفسه, ولئن كانه. على ان في سياقات أخر يتم التقنع, حيث ان القناع رمز لذات الزمن ونفس المرحلة:
وجه الطفل ينظر الي, يتفرس في, كما لو كان
وجهي مصبوغا بالألوان, أو شاشة تلفزيون, أو
شارعا تحت شرفة, أو ربما مرآة, مرآة سحرية
يرى فيها الطفل وجهه وما وراء المرآة في وقت واحد.(ص57)
وجهي خلف القناع? أم القناع خلف وجهي? كما لو كان
وجهي الظاهر قناعا, والقناع الإفريقي الأسود الكامن هو
وجهي الحقيقي. (ص57)
إن الطفل يتمرأى في آخر ويتجسد من خلاله.
على أن ما يمكن الانتهاء اليه كون التلقي الخيالي وليد لحظة الحلم. وهذه ترتبط اساسا بالطفولة المستعادة زمن الشيخوخة:
أحلم بأنني طفل في المهد وأنني أبكي.(ص52)
إن ما تحيل عليه الشيخوخة الموت. هذه الموضوعة, تبرز بشكل لافت داخل المجموعة, وأرى أن للعنوان دلالته. ذلك ان في رمزية ققنس ما يدل من جهة على الموت, وعلى التميز بحسن الصوت من ثانية.. والحسن قتل للذات كما للآخر. وبالتالي فهو الانمحاء بالاتيان على الموجود.
على ان مظاهر تجليات الموت تتمثل داخل المجموعة في الاحساس بالعزلة, الخواء, المرض, الى الحسرة على ما كان ولم يعد موجودا.
إن الزمن في هذه الحالة يعادل الحنين.. والأخير لا يكتمل إلا باستعادة الزمن الطفولي ضدا على شيخوخة غير مرغوبة.. ويمكن القول بأن المعجم المصاحب لهذه الموضوعة سلبي, حيث يتناسل وبصيغ مختلفة داخل هذه القصص.
هناك في الطرف الآخر للمدينة, ساهرا وحده وبدون
تلفزيون. يخلع نظارتيه ويمسحهما ثم يعيجد المسح. كأن قصر/ سوء
ضعف النظر, كأن الشيخوخة/ المرض/ الوحدة/ انعدام المعنى..
ذرات غبار على زجاج النظارة يمكن مسحها فيعود الزمان الى الوراء
وتعود الفرص التي ضيعها متاحة دانية يمكن رؤيتها بالعين الكليلة
ولمسها بالكف الخشنة وانتهازها بالجسد الهرم. (ص28)
ويتحول استجلاء مظاهر الموت من الذاتي المباشر, الى المجرد الذي يتجسد في نوعية التفكير في الموت, حيث يمثل حس المقارنة بين زمنين: زمن عادي, وآخر عولمي استهلاكي يسهم في قتل الابداع والخلق, وذلك بتوفير كافة المتطلبات.
إن التفكير يتحقق:
1/ بالتفكير عن علاقة الابداع بالموت.
2/ بتقييم المرحلة الراهنة.
3/ بكشف العلاقة بين الموت والأشياء الجميلة.
إن تلقي ققنس في ضوء المنجز السابق, أو في حياد عن ذلك, يوصل الى ان كتابة القصة لدى أحمد بوزفور لا تتم إلا في محيط من المرجعيات, وهو ما يرهنها في دائرة من التجريب الجمالي المتفاوت بين نص وآخر, على أن البارز في هذه المجموعة, طابع التفاوت بين نصوصها علما بتباعد زمن الكتابة. وأعتقد بأن القاص يبحث عن نقلة مغايرة لمسار بات مألوفا عنه/ ولديه..
--------------------------------------
صدرت هذه المجموعة عن حلقة مجموعة البحث في القصة القصيرة بالبيضاء/ المغرب (2002).