كثيرا ما يطرح سؤال الشعر: ما هو الشعر؟ ولمن وكيف يكتب؟
و"ما" هذه للسؤال عن الجامد، غير العاقل.
و بالنسبة للشعراء_ الشعر هو حركة الوجود الدائمة، وأعقل من كل عقلاء المجانين، كالطغاة المستبدين بالشعوب،والأشرار تجار الحروب، على سبيل الأسف والمثال.
ولذلك، فالصحيح أن يقال: من هو الشعر؟
لأن الشعر كائن، حي، وعاقل، تراثي وحداثي، ومتجدد باستمرار الحياة. ومواطن حضاري، ينبغي أن يتمتع بالمواطنة الكاملة والشاملة الحقوق والواجبات. وله حالة مدنية وبيت وعنوان وتاريخ الوجود الإنساني العريق، وجغرافية الأرض المترامية الأرجاء. وينطبق عليه ما ينسحب على سائر الأحياء والكائنات.
الشعر إنساني، وعلى طرفي نقيض مع كل ما ومن يشوه جمال الطبيعة والحياة والحضارة والثقافة والإنسان. ولذلك كان الشعر دائما ضد كل مظاهر الشرور والمظالم، بما في ذلك جرائم التطرف والإرهاب والعنف الممارس على المرأة والطفولة والطبيعة والإنسان والحيوان، على حظ من الاحترام سواء.
الشعر، في تاريخ الآداب، أعرق الفنون، وأسبق ظهورا من النثر، شفاهي قبل أن يدون، واقترن بالغناء، والعمل اليدوي، اليومي، كما في مواسم الحصاد والقطاف والزفاف والمآتم، ولدى البحارة والأمهات، لهدهدة الصبيان في المهد، وفي مرح الأطفال وكدح الرجال والنساء أيضا، وأقرب مثال على ذلك كتاب: "رباعيات نساء فاس" للعلامة محمد الفاسي، الذي جمع فيه أغاني حسان فاس ، المسماة: " العروبيات" التي كن يتناشدنها أثناء النزهة والعمل في الحقول والبساتين.
الشعر محبة الإنسان، وسؤال الوجود، ومعرفة كونية، وعاطفة سامية، ولغة راقية، بلسان الحياة، والحلم بالمستحيل، الذي يمكن أن يصبح واقعا، بالأمل والعمل، ولو استجاب العالم كله لنداء الشعر وكل أنواع الإبداع الجميل، لكانت حياة الإنسان على الأرض أجمل وأفضل حالا ومآلا.
الشعر لعب، جدي، بالكلمات والألوان، مجاني ولكنه مفيد وضروري، كالماء والهواء، يشكل الوعي البشري، ويصحح وينقح اللسان والرؤية والمسلك والذوق.
الشعر ذاتي، خاص، ولكنه معير عن العام ومؤثر في الآخرين.
الشعر موسيقى وإيقاع الجسد والروح، كالرقص والغناء، وحاسة سادسة، ويد وعين ثالثة، وهبة إلهية، وشعبة من الإيمان، بكل القيم النبيلة، وموهبة فطرية، ولكنها تستوعب وتكتسب، بالاستعداد النفسي والثقافي وبالإرادة والممارسة، ومن طلب العلا سهر الليالي، كما قال الشاعر.
الشعر هو الحياة نفسها، أو تجربة حياة، وسفر في ذاكرة الأزمنة والأمكنة، الواقعية والمتخيلة. ولكن الشعراء حزانى، في كل زمان ومكان، لأنهم يحلمون دائما بالفرح المطلق، للعالم ، وينظرون إلى الوجود كله بعيون الاحتفال والجمال والسؤال. ومن كان جميلا لابد أن يرى الوجود جميلا ، كما قال الشاعر: كن جميلا تر الوجود جميلا.
الشعر في جميع الأحياء، ومن لا يكتبه ولا يقرأه فهو على كل حال يغنيه ويعيش فيه ملء العين والقلب والوجدان.
ولكن الشعر يكتب الحزن من أجل الفرح، ويكتب الحرب من أجل السلام، ويكتب الشر من أجل الخير، ويكتب القبح، الذي هو أيضا أحد أشكال الجمال، القادر وحده على أن ينقذ العالم من الضلال.
ولذلك الشعر فن جميل، وكان ضروريا أن يبدعه الإنسان، وسيلة فعالة للتأمل والتفكير والتعبير والعمل به في حياته اليومية، تماما كالحب الذي قال عنه نزار قباني:
الحب في الأرض بعض من تخيلنا
لو لم نجده عليها لاخترعناه.
الشعر محاولة من محاولات كثيرة لإعادة إنتاج الواقع، واكتشاف الوجود الإنساني واستشراف آفاق المستقبل.
والشعر حرية، ولكن، له ضوابط وقواعد وقوانين، ومنفتح على كل المعارف والعلوم والفنون والآداب واللغات والشعوب.
والشعر تجديد دائم باستمرار الحياة، وكل قديم كان جديدا وكل جديد سيغدو قديما، وهكذا باستمرار الحياة الشعر بعبارة واحدة: دهشة الطفولة الدائمة والحالمة. ولذلك يدعو كبار الكتاب والشعراء إلى استعادة الطفولة، طفولة العالم والإنسان، واستدامة الدهشة، لكتابة العالم بعيون الطفولة الجميلة، وللعودة إلى الأصل، حين كان الإنسان، البدائي، الأول، يعيش فردا في جماعة، سعيدا بالحياة البسيطة، داخل الكهوف والغابات، يتعاون مع الطبيعة الأم، لتأسيس الحضارة، قبل أن يبتلى بالمال، الذي كان رأس الاستعباد والاستبداد والاضطهاد، بدلا من أن يكون وسيلة لإسعاد الإنسان.
وإلى ما لا نهاية يمكن الحديث عن الشعر بلا انقطاع. وأن نعدّد له صفات لا حصر لها، ولكنه دائما أبي وعصي، عنيد وممانع، مطلق الحرية، لا ينقاد بسهولة إلا لمن يعشقه، بوصلة مرشدة ومنارة هادية، في الحياة كما في الكتابة. ولا يعرف ولا يوصف إلا بأنه شعر، ولذلك احتار في كنهه وجوهره الفلاسفة المفكرون والنقاد الدارسون، على مر الأيام والليالي الخوالي والتوالي.
ولكن، ليس الشعر ديوان العرب، كما يقال، إلا لأنهم لم يكن لهم علم غيره، كما يقال أيضا، وربما كان العرب أقل شعرا واحتفاء بالشعراء، من شعوب أخرى كثيرة. وبالتالي، الشعر ديوان ولسان الإنسانية، وفي كل زمان ومكان، الشعر جنس بشري واحد ومتعدد التجارب واللغات والأشكال الفنية، ولا ميز فيه بين العمودي التقليدي، والتفعيلي والإيقاعي، والزجلي والأمازيغي، مثلما لا مفاضلة بين الولد والبنت، ولا بين المرأة والرجل، ولا بين الشعوب واللغات والأديان. وللناس فيما يعشقون مذاهب، كما قال الشاعر، ولا شيء بفرض عليهم ولا شيء يرفض منهم، سوى بالإقناع والاقتناع.
إلا أن الشعر ليس مجرد محفوظات، كما في معظم الكتب المدرسية، التي تلقن كلاما عاديا منثورا ومشطورا وخاليا تماما من المعنى والمبنى الجميل. الشعر يحفظ ويستظهر، نعم، ولكن يجب أن يسمى باسمه الحقيقي، شعرا، وله أشكال وألوان عديدة من الكتابة الجميلة القديمة والجديدة.
وفي بلدان كثيرة، أجنبية، يتبوأ الشعر أرفع مكانة، ويحظى الشعراء، في حياتهم قبل مماتهم، بما يستحقونه من الإنعام والإكرام.
ولكن الشعر لا يرضى إلا بالمقام الأول.
وقد دخل الشعر المغربي المعاصر فعلا إلى المقررات المدرسية، ولكنه دخل إليها خجولا وقليلا، وللأسف، لا تزال البرامج والمناهج التربوية، في البيت والمدرسة والإعلام، دون مستوى الطموح، المطلوب والمرغوب.
الأولوية للشعر المغربي، قبل المشرقي، والأسبقية للجديد، فبل القديم، لأننا يجب أن ننظر إلى الماضي بعيون الحاضر والعصر، لا أن ننظر بعيون الماضي إلى واقع العصر، بل أن نتطلع إلى الحاضر بعيون المستقبل، والشعر دائما قادم من المستقبل، وهو رؤية من قمم الجبال إلى حضيض السفوح وليس العكس، ولذلك ينبغي أن نرتفع جميعا نحو أعالي الجمال، نحو الأسمى والأعمق والأرقى والأبقى.
وليست مهمة الشعر أن ينوب عن دور الأسرة والمدرسة والإعلام ومؤسسات المجتمع المدني، الثقافي والسياسي، الرسمي والشعبي، في نشر الوعي التربوي بالشعر، والارتقاء بالذائقة الفنية والجمالية، وتعميم الثقافة والكتاب، لفهم واستيعاب جمال الشعر وكل أنواع الإبداع الإنساني. ومهمة الشعراء أن يكتبوا ويواكبوا التطور، وصولا إلى مستوى الفن الرفيع العالمي.
ولذلك ينبغي لمن يريد كتابة الشعر، أن يبدأ من حيث انتهى إليه الآخرون،
لا أن نكرر دائما البداية المملة، بالمحاولة والخطأ، تماما كمن يريد أن ينافس ويسابق نجوم الكرة والسينما والغناء والرياضة الأولمبية، حصولا على أرقام أو أقلام قياسية، وإلا فليعمل بنصيحة الشاعر القائل:
إذا لم تستطع شيئا فدعه
وجاوزه إلى ما تستطيع
ومن لم ينجح في عمل لابد أن يفلح في عمل آخر، المهم أن يربح الإنسان الحياة، وأن لا يخسر شيئا، مثلما بذر أبناء جيلي الكثير، من الطاقة والوقت، في تقليد القديم قبل الاهتداء إلى كل مظاهر الجديد المعاصر!..
[ قدمت هذه الورقة خلال الأمسية الشعرية الكبرى التي نظمتها الأكاديمية الجهوية للتربية والتكوين بفاس يوم 29مارس 2007 لفائدة التلاميذ الشعراء الفائزين في الدورة الرابعة من المسابقة الشعرية المتعددة اللغات واحتفالا باليوم العالمي للشعر..]
[right]