بإشفاق ومواساة ترمق العيون الشقة السفلية في الحي, غرفة مفعمة بكل ما يدمي عينيها حزنا وانكسارا, جالسة على كرسيه عند مكتبه, تستجمع ما تبقى عندها من عزيمة تعيش بها مع حاجياته...
كتب وأوراق وأقلام بعض ذكرى من فقيدها الغالي "أحمد", عطره كما هو, كذا صورته مبتسما إلى جوار" توأم روحه" في أكناف كلية الآداب بمدينته. كان يروقه هذا الوصف لها, لا تعرف عنها أكثر من بنت تمناها ابنها يوما زوجة له, أحبها إلى النخاع...
كيف ستتزوج, ولما تعمل بعد يا ولدي؟
بالكاد تقوى على النظر في ألبوم صوره ,حبيبها وصغيرها كما كانت تنادي عليه لوقت قريب, وهو ابن الثامنة والعشرين, ولد وسط العقد بين بنتين.
مكلومة إلى الوريد حين تجلس على جانب هذا السرير,أصبح باردا, باردا جدا. يومها ماتت حين دقت باب هذه الغرفة, عساه أن لا يتأخر عن الكلية فلم يجبها, كسرن الباب يومها بأفئدة شاحبة مرتجفة,
فذقن مرارة الحزن كرة ثانية....
"توأم الروح" تزور القبر كل جمعة برأس ناكسة, تضع وردة بيضاء,تقرأ ما تيسر من الذكر, وتمشي
تمشي...رومنسية تقضها ذكرى مؤلمة.
مكلومة إلى الوريد تزور المسكينة قبر حبيبها الصغير.
مخطئتان إن ظننتما يوما أني سأفارق هذا المنزل مهما حدث. هنا مات الأحباب وهنا أنا سأموت.
يزرنها بانتظام كل يوم أحد من مدينة أخرى, تحيا من جديد وهي تقبل صغير ابنتها الكبرى,يشبه كثيرا حبيبها"أحمد". لم يلمنها الناس على فرحتها المقتضبة حين زفت ابنتها الصغرى إلى عريسها بعد ثمانية أشهر من وفاة الغالي" أحمد".
وحيدة هنا تقرأ آيات الرحمة من وراء دموع غزار...
يوم أعمل سأبعثك إلى الحج, أماه ستصلين من أجل والدي في حضرة النبي.
رأس مائل على الوسادة, عينان شاخصتان إلى الأسفل, هاتفه الخلوي في يده اليمنى قريبا من مسمعه, يسراه آخذة بثيابه جهة قلبه, وصورة مكسورة...هذه صورته يوم كسرن عليه الباب بأفئدة شاحبة.
لغز قال عنه الطبيب الشرعي:
لاتسمم, وافته المنية بذبحة صدرية شديدة الوقع مباغتة, صدمة قلبية عنيفة:خبرمزعج,سجال في الهاتف, كلمة قاتلة... لم يقو المسكين ساعتها على الحراك ولا النداء.
ليلتها طبخت له طاجين سمك بالبطاطس,لعق أصابعه من فرط لذته ودخل غرفته.
نم قرير العين ولدي, راضية عنك ما حييت.
كما سنة ونصف مرت تعود يوم زيارتها للمقبرة بوردة بيضاء, لا تدري واضعها. ما تدريه أن هناك من يسبقها لزيارة الغالي " أحمد", وأنها تعود بالوردة التي تفقد عبيرها سريعا, وتراها تذبل وقت الفجر.
نعم وردت على هاتفه ليلته الأخيرة مكالمة وقت الفجر, آخرمكالمة ....هذا ما يؤكده هاتفه. نفس الرقم
لا يجيب منذ سنة ونصف , رقم بلا عنوان . ونفس الاستفسار يكرر:
ماذا كانت الكلمة القاتلة؟؟
استفسار بلا جواب. أقسمت يوما "مريم" أن الوردة البيضاء لتوأم الروح,أخبرها أخوها الغالي على استحياء بهذا الوصف.
المسكينة أحبته بصدق, مخلصة وفية, لن يخيب الله رجاء لها أبدا.قلب أبيض كقلب الغالي.
لكن لما كسرت الصورة يومها, لما ؟؟
واقفة قبالته تقرأ ما تيسر من أيات الرحمة, غراب يحوم قريبا يقول شيئا بنعيقه, خطوات متسارعة
تتخطى الأجداث المتزاحمة, نبضات الفؤاد المكلوم تتزايد, والعينان الحزينتان ترمقان – بامتنان – أخيرا, أنامل رقيقة تضع وردة بيضاء على المثوي الغالي....خرست الألسن هنيهة, ثم تحاضنت المعشوقة والوالدة.
رحمه الله كان عزيزا على قلبي, قالتها وهي تحرك خاتما يلمع .
ما أجمل صنيعك, ما أكبره؟؟ صورتك والغالي ما زالت بجانب سريره, أصلحتها,قد تكسرت
يوم فراقه.
أفكار و ذكرى مؤلمة , والوردة البيضاء بللتها دموع سخينة...وما زال الغراب ناعقا يحوم قريبا,
حبذا رقم هاتفك أدعوك لزيارتي يا غالية .
نعيق في السماء حاد, وذهلت الوالدة لما سمعته من الأرقام المتوالية. نفس الرقم الذي لا يجيب منذ سنة ونصف. تحفظه جيدا, وجدت عنوانه, عساها تظفر بجواب لحيرتها المضجرة .
ماذا كانت الكلمة القاتلة ؟؟
تباعدت الخطى المتثاقلة, ضميرمعذب, عند باب المقبرة سيارة فارهة.... وعادت ذات القلب المكلوم بالوردة الذابلة, قذفتها في النفايات حين كان الغراب مازال يحوم قريبا, يقول شيئا بأصوات متداخلة.
ترى ماذا كانت الكلمة القاتلة ؟؟
بقلم: حميد كوفة
2014/1/25.