في حضرة الموت
يتماهى الجسد مع ظله، يبوح له باعتراف الوجدان المنفلت من حدود اليم، ما كان له أن يعشق القلنسوة لولا رائحة زبد البحر التي تفوح منها، زغاريد تملأ الفضاء ، يتموج فوقها نعش المرأة ، تبكي الجثة غربتها، حين ولدت ، عشقت ، أحبت وماتت. غربة الذات في انبثاقها ، مع ذاتها ، في وصالها وفي نعشها.
ترانيم المشيعين تذكر الذات بنبعها ، تكبر لله الذي يسكنها ، توحد بعاشقها الوحيد، تنتصب الذات فوق نعشها تبحث عن اتزانها على تموجات التشييع تنسل لتطل على شبح غربتها، يتراءى لها بين المشيعين، تكتوي بسؤال الوجود الميتافيزيقي كيف للغربة تلاحقها في موتها؟ والكينونة تتجرد من ماهيتها؟
عين تفيض جمالا قدسيا بها بحيرة بجع وسحر الموسيقى تحيي فيها شجن العشق، أحزان شتاء الانتظار، رومانسية الطفلة الثاوية فيها لحظات الانبهار باكتشاف ثورة الجسد..تتوحد مع ترانيم المشيعين في سيمفونية تكبر للعشق والخلود.
بين الهجران والنفي القسري عن دنيا الجسد والارتماء إلى حيث السمو و الحياة، تنشطر الذات في مفارقات التفكير والاعتقاد بازدواجية الحياة وانبعاث الذات في لحظات العدم ورعب اللاتناهي، كيف لا والطبيعة تخشى الفراغ، والطبيعة كامنة في الجسد بإشراطاتها المتوحشة.
أدعية تخترق الثرى تجفف دمع الجثة المتحجر في مقلة الزمن، تتوسل رحمة بذات يفترضون معاصيها المتراكمة امتداد العمر، تمثل ذواتهم في ذات منفلتة من التناهي، توحدهم بلحظات الأفول يغرقهم في يم التكبير و التوحيد، يمارسون طقوس التطهير الذاتي...
لا تناهي الامتداد يخترق الجسد يحمله تغريدة في لا تناهي الجواهر والماهيات، يصعد به أدراج الأرواح عبر شعاع نوراني، تسائله الحوريات عن قلاع وأبراج زمن القوافل تمخر الصحارى حيث العدم وفراغ جرات التاريخ الملأى بتجاعيد العجائز و مساحيق الباغيات ، وعن جمال سئم زمانه واغترب في محراب ذاته يصلي للمدى المطلق...... تأبى الذات الاستمرارية في الارتقاء تشدها مقامات الزمان وصدى ترانيم المشيعين، عويل النساء ، قصور الرمال،نسائم المروج تدغدغ الجسد، تشتعل الإيروتيكا لذة، تذكره بسعادة تحرسها الحية وبعرصة التفاح المسقية عرقا متصببا من الأجساد العارية يضيئها شفق أحمر يعبق بنبيذ معتق...
قامة حفار القبور، تعاويذ لسانه، حركية جسده، صهيل زفيره...تأسر الذات،تنتشلها من مقامات النكوص، تقذف بها في لا تناهي الإشراق..تنفجر الذات نحوه مشدوهة مرعبة تشيح ببصرها حيث العتمة، لا وجود إلا للألوان القزحية،حوت البحر،طائر الهدهد، ماء سلسبيل يغسل وجوها فقدت ملامحها..بياض الأشباح في ساحة الصمت يحجب الرؤية، تحترق الذات بسراجها الناري، يهمس لها ظلها: أن تزداد احتراقا، لهبا ، أن تحول أطرافها حطبا لنار متقدة، تدب في عروق الكون لتنجلي مع ذروة انفجار ذراته...
يتفرق الجمع، تخط الذات على لوحة قبرها : ها أنذا أهيم في العين القدسي على براق الحروف و تموجات تراتيل قداس السهام الصاعدة، بشطحاتها نحو الخلود تنفصل الروح عن الجسد التائه في دوامة التناهي والانغلاق... تخرس الأفواه، يعم الصمت فتسمو الروح في تعاليها لتغيب وراء الحجب.
المصطفى سكم