التدوير
اعتمدت الشاعرة رشيدة فقري على فنية التدوير في إيقاعها الشعري...والتدوير هو:"امتداد البيت وطوله بشكل لم يكن معروفا في الشعر العمودي، ولم يكن مألوفا في الشعر الجديد في مراحله الأولى.فقد يمتد التدوير حتى يشمل القصيدة كلها أو يشمل أجزاء كبيرة منها، بحيث تصبح القصيدة ، أو يصبح المقطع المدور فيها بيتا واحدا"[1]...
والهدف من التدوير ، هو:"تحقيق علاقة عضوية بين المعنى والموسيقى، مما جعل هذه التقنية وسيلة فنية موسيقية توائم البناء النفسي للقصيدة، وتستدعي لتحقيق هذا التواصل والتركيب طاقة شعرية كبيرة"[2]...
وعندما نقرأ قصيدتها ( مهب الحنين)، والتي تقول فيها: أشهق بموعدك
المتدلي
من
شرفات الغيب
أعلق الأمنيات
على جدار القلب
اوقد الضلوع
أهيم
أهي ي ي ي م
بالهمس
حين
تتغرغر باسمي
أنشودة الوفاء
ففي هذا المقطع الشعري، نجد الشاعرة رشيدة فقري ، توظف التدوير، ليصبح هذا المقطع يتألف من ثلاثة أسطر شعرية متكاملة البناء والمعنى...وهي: 1- أشهق بموعدك المتدلي من شرفات الغيب
2- أعلق الأمنيات على جدار القلب
3- أوقد الضلوع،أهيم،أهي ي ي ي م بالهمس حين تتغرغر باسمي أنشودة الوفاء...
وبالتالي تصبح (الباء والفاء) وقفات لهذه الدفقة الشعرية... وهذا يجعل المعنى لا يكتمل إلا بتوالي الأسطر الشعرية.. كما نجد كل سطر يستهل بفعل مضارع خاص بالمتكلم..
وعندما نقسمها عروضيا، نحصل على ما يلي: أشهق بموعدك
/0// //0///0
فعْل فعَلن فعلن
المتدلي
/0///0/0
فعل فعولن
من
/0
فعْ
شرفات الغيب
///0/ 0/0/0
ل فعولن فعلن
أعلق الأمنيات
//0// 0/0//0/
فعولن فعلم فعولن
على جدار القلب
//0 //0/ 0/0/0
فعول فعلن فعلن
أوقد الضلوع
/0// 0//0/0
فعل فعل فعلن
أهيم
//0/0
فعولن
أهي ي ي ي م
//0/0
فعلن
بالهمس
/0/0/
فعلن ف
حين
/0/0
عولن
تتغرغر باسمي
///0// /0/0
فعلن فعلن فع
أنشودة الوفاء
/0/0// 0//0/0
لن فعل فعل فعلن
فنجد أن (من) السبب الخفيف ، تضاف إليها (الشين)، لتصبح وتدا مفروقا (منش=/0/)...
كما أن(حين= /0/0) تتكون من سببين خفيفين، للتدوير نضيف إليها(المقطع القصير المفتوح = س)، لتعطينا وتدا مجموعا + سببا خفيفا(سحين=//0/0 فعولن)..
كما نجد السطر ما قبل الأخير ينتهي بسبب خفيف، يجعل المعنى لا يتم، وبالتالي يتضمنه السطر الموالين فيحصل التدوير ، إذ نضيف سببا خفيفا آخر لتتم التفعيلة.فنحصل على سطر طويل (تتغرغر باسمي أنشودة الوفاء)، ومن ثمة يصبح التقسيم هكذا(مِيأٌنْ=/0/0).
هكذا نجد أن الشاعرة رشيدة فقري قد اهتمت بالإيقاع في قصائدها لأنه يوفر له نوعا من الموسيقى، ونوعا من الجمالية الشعرية التي تشد بها المتلقي، وتجعله في مقام المنتبه والمنصت لشعرها.
الجملة الشعرية في شعرها
الجمة الشعرية تركيب يتكون من مجموعة من الأنواع، تتنوع بحسب المسند والمسند إليه، وما يطرأ عليهما من تقديم وتأخير ، أو تعريف وتنكير.. وتمتاز بانزياحها وإيقاعها وموسيقاها، ودلالتها..
1- الانزياح اللغوي:
إن الانزياح اللغوي في شعر الشاعرة رشيدة فقري سمة فنية، ملازمة لشعرها.. وتتجاوز اعتيادية المعجم، لأن لغة الشاعرة تخرق الأنساق اللغوية المألوفة.. وهذا ما نلحظه في قصيدتها(إيزيس)، والتي تقول فيها: قوافل شوقي
تجتاح أبواب قلبك
تحمل إليك عطري
قبسا من ناري
يقيني وجنوني
إيزيس التحفت عريها
وألقت رداءها على كتفيك
ففي هذا المقطع الشعري، نجد بعض الانزياحات اللغوية كما في قولها(قوافل شوقي- تجتاح أبواب قلبك- تحمل إليك عطري- التحفت عريها).
فقد جعلت لشوقها قوافل، وحولته من شيء عقلي إلى شيء مادي،كما جعلت لقلبها بابان تجتاحه هذه القوافل وتعبره، لتدخل إلى داخل أعشار القلب...وهذا دليل على حنين الشاعرة، وشدة شوقها، وعشقها.
كما نجد صورة جميلة، وهي أن إيزيس تجع من العري لحافا، تلتحف به...وبذلك يتحول المعنوي إلى مادي محسوس...والصورة العقلية إلى صورة مادية ملموسة...
كذلك نقرأ من قصيدتها(يطول صمتك، يكبر موتي)، المقطع التالي: يطول صمتك
تتناسل
في الغيم استفهاماتي
تزحف جيوش الحيرة
تدكني قلعة قلعة
يكبر اليأس
تينع شظايا القلق
يهوي الليل على الروح
ففي هذا المقطع ، نجد بعض الانزياح اللغوي، الذي يشكل منافرة دلالية بسبب لا نحويتها. فالشاعرة عندما تقول (تتناسل في الغيم استفهاماتي)، و(يهوي الليل على الروح)و( تدكني قلعة قلعة)و( تزحف جيوش الحيرة)و( يهوي الليل على الروح).. نجد أن الكلمات تتجاوز وظيفتها النحوية، وتخرج عن نظامها المنطقي للعلاقة النحوية، وبالتالي تتغير طبيعة التركيب.
فالجملة (تتناسل في الغيم استفهاماتي) جملة صحيحة نحويا، وقاعديا grammaticalité، ولكنها لا تتوفر على المقبولية acceptabilité...
هذا يعطي للجملة لا منطقية العلاقة بين كلماتها، ومن ثمة تتجاوز اختراق وانزياح البنية السطحية، إلى البنية العميقة، والتي تظهر فيها المخالفة واضحة وجلية.
فالجملة تتركب من (فعل+ جار ومجرور+ فاعل+ مضاف إليه).."فعلى الرغم من أن البنية اللغوية للمركبات السابقة لها صفة الطبيعية على المستوى القواعدي المجرد، فإنها تخلق فجوات بين الاختيار المتحقق والاختيارات الممكنة على المحور النسقي/ الاستبدالي. وهذه الفجوات تكمن في العلاقة بين المتجانس واللامتجانس.. بين الطبيعي واللاطبيعي"[3]...
و(يهوي الليل على الروح)، تتركب من (فعل+ فاعل+ جار ومجرور)، وهي صحيحة نحويان ولكنها غير مقبولة من حيث في معناها، ومقبوليتها... إذ سقوط الليل لا يخضع إلى أي منطق... وهذا اللامنطق في دلالته ولد في القصيدة نوعا من الانزياح اللغوي، إذ خرج بها عن معناها الظاهر إلى المعنى الخفي...فأصبح يفهم أن الشاعرة تعبر عن حالتها النفسية ولذا استعارت الليل وسواده، للتعبير عن الحزن والقلق الذي ينتابها ، ويثقل نفسها...
وهذه الانزياحات ، أخرجت اللغة من الاعتيادية إلى الشعرية، وبالتالي الغرض منها هو الرفع من حدة الدهشة، والرفع من شدة الانفعال، والتوتر.. والرفع كذلك من جمالية اللغة وفنيتها.
وهذا كله يزيد المتلقي تأثرا وانفعالا، فتصبح العلاقة ما بين القصيدة ولغتها، والمتلقي لغة تأثير، وتفاعل وتأثر...
فعندما قالت الشاعرة (تتناسل استفهاماتي- تزحف جيوش الحيرة- تينع شظايا القلق- يهوي الليل على الروح)، فقد خلقت بذلك خرقا في اللغة العادية،ومن ثمة تحولت الكلمات التي أسست لهذا الانزياح إلى كلمات مفتاح... لتتحول هذه الأخيرة إلى كلمات رمز... خاصة إذا علمنا :"أن الرمز هو صورة الشيء. محولا إلى شيء آخر، بمقتضى التشاكل المجازي، بحيث يقدر لكل منهما الشرعية في أن يستغلق في فضاء النص ، والسياق الذي يرد فيه هذا الرمز هو الذي يعطيه دلالته"[4]..
2- الانزياح التركيبي من حيث التقديم والتأخير:
في شعرها نجد شاعرتنا تعتمد خرق التركيب اللغوي، إذ توظف التقديم والتأخير في مواقع الجملة، وبالتالي تأتي مخالفة للجملة العادية. تقول في قصيدتها (مهب الحنين): أهيم
بالهمس
حين
تتغرغر باسمي
أنشودة الوفاء
فعندما نتمعن في هذه الجملة الشعرية(تتغرغر باسمي أنشودة الوفاء)، نجد أن الشاعرة قدمت شبه الجملة (باسمي) على العامل الذي هو الفاعل(أنشودة)، لتنبه المتلقي إلى حالة العشق التي هي فيها وعليها،وحالة الحنين التي تتلبسها.
وتقول في قصيدتها(أعنيك بالضبط): وفي رئتيك
نسائم الغسق الواهج
حبيبي
حروفك
حبات الدر
وضحكك
كل هذا الملاذ الذي يحملني
إلى السحاب
صمتك.. جلال
غضبك
أعاصير
زمهرير
رضاك
وطن للأغاريد
وطن للزغاريد
ملجأ الفراشات
سمفونيات رقص
ذراعاك
تصدان حربا جانحة
وفي مقلتيك
البطل الذي لم يولد
ففي هذا المقطع الشعري، نجد تقديما للمسند إليه على المسند. ففي الجملة ( وفي رئتيك نسائم الغسق)، نجد تقديما للخبر الذي جاء شبه جملة من الجار والمجرور، وتأخيرا للمبتدأ (نسائم)..
كما نجد تقديما للأخبار (حروفك- ضحكك- صمتك- غضبك- رضاك- ذراعاك- في مقلتيك).. وتأخيرا للمبتدآت..وهذا كله مقصود من الشاعرة، لتنبه المتلقي إلى أهمية الأمر، وتشد انتباهه إلى الحالة الشعورية ، والنفسية التي عليها الذات الشاعرة.. ولحظة البوح التي عليها.
كل هذا الانزياح ، وظفته الشاعرة رشيدة فقري عن وعي، لأنها تعرف أنها تحقق بذلك جمالية القصيدة. وتستقطب إليها متلقيا تضعه في حسبانها أثناء كتابة القصيدة. وبالتالي يصبح الانزياح عندها مرتبطا بجمالية التلقين وخصوصياته.
[1] - يونس ، (عالي)، النقد الأدبي وقضايا الشكل الموسيقي في الشعر الحديث، الهيئة المصرية العامة للكتاب، القاهرة، 1985، ص: 65
[2] - أ.د. عبيد،(محمد صابر)،القصيدة العربية الحديثة بين ابنية الدلالية والبنية الإيقاعية، اتحاد الكتاب العرب، دمشق، (د.ط)، 2001، ص: 108
[3] - د. جريكوس،(تيسير)، منافرة الدلالية/ اللانحوية وشعرية الجملة عند البياتي، جريدة الأسبوع الأدبي ، العدد 690، تاريخ 25/12/1999
[4] - كليب،(سعد الدين)، وعي الحداثة: دراسة في جمالية الحداثة الشعرية، اتحاد الكتاب العرب، دمشق، (د.ط)، 1997، ص: 71
يتبع