1. قصة قصيرة : الدخان الابيض
"أيها التائه في دروب الحيرة . تفرد لتحمد الوحدة . إن الحياة لا سر فيها" .
هشام ناجح
أجراس الكنائس تخيم على الأجواء في الفاتيكان . المطران فلورنتينو بيريرا لم يحضر القداس المعتاد . كل شيء ينذر برغبة مبهمة في إعادة تركيبة النصوص والطقوس . تتسع حدقتا عينيه ، متفحصا بإمعان تمثال العذراء . يقوم من مكانه بعد أن رش العطر الزكي من القمقم على كل جنبات المحراب في زاويته الصغيرة . ملوحا بالصليب لطرد القوى الشريرة التي تعكر روح المكان ، ومتمتما بكلمات تحت شفتيه ، ربما تكون كلمات الربط بينه وبين الابن .
يقترب بإجلال منها لسبب خفي لا يعلمه . قد يدرك سطوة الاستفهامات التي تثقل كاهله على الدوام . كان البساط الأخضر طويلا هذه المرة :
" أيتها الأم هل نحن نحقق الأمل على جادة الأناجيل ؟ أيهم كان على حق هل مرقص أو متى أو يوحنا أم لوقا ؟"
يتهدهد التمثال أمام أعينه كأنه على وشك أن يتحرك :
- لا يا بيريرا إن الأناجيل تمحق العهد القريب ، وترتب لبناء لم يكن في الحسبان .
- ولكن أيتها الأم إن الطريق إلى سان بيير محفوفة بالمخاطر . تحتاج إلى الدم لمعانقة الدخان الأبيض .
- لا عليك يا بيريرا ، لم يكن الابن يلبس الحق بالباطل . يجب أن لا تختلط عليك الأهواء ، وتجتهد لتدرك الطريق إلى سان بيير بدون دماء .
- أعدك أيتها الأم .
انحنى بإجلال محركا سبابته بثالوثه المقدس ، متراجعا إلى الوراء ، وهو لا يزال يتمتم بكلمات القداسة .
جلس في مكتبه يتصفح الأناجيل . يريد أن يعرف السبيل بين سطورها إلى سان بيير . لا وجود لها على الإطلاق ، كل الطرق تبسط وجهتها في الشرق صوب أورشليم مهد الديانات ، حيث صرخ المسيح صرخة الحياة الأولى في كنيسة المهد ببيت لحم . كانت ثمة نجمة كبيرة تحرس السماء على غير العادة ، وزاد من صفاءها أنها صادفت الساعة الفلكية التي يتحكم فيها القمر :
" الآن أدركت لماذا كان غاليليو يمكث طويلا في خزانة الكنيسة الأرضية . يترصد الرموز ، مجموعة من المثلثات ، والأهرام التي تتوسطها العيون .
هل بالفعل كانت الكنيسة على حق لما صادرت الحقوق في القرون الوسطى ؟
ما دور أحزمة العفة في البوح للفراغ بخلجات زفرة الإنسان المعذب ؟
أزال نظارته الطبية السميكة ، وهو يفتح الكتاب المقدس ويغلقه :
" كل هذا يبدو سهل المنال . لكن هل صلب المسيح حقا ، ليتحمل أوزار المسيحيين ؟ "
رفع بصره إلى الفضاء مثبتا أعينه على المصباح :
" آه كم أنت حزين يا بيريرا في معرفة الحقيقة . لقد ضاع عمرك في تجسيد قداسك على الدوام .كانت مهمتك تحريك الأجراس باعثا الهلع الروحاني في الأفئدة الحائرة . ها أنت تقف اليوم في مفترق الطرق . بعد هذا العمر يا بيريرا تكشف جبنك ، وانصياعك لبشر يوهمونك بالتفويض الإلهي على الأرض ".
شرعت الخيوط الأولى للشمس تلوح في الأفق . خرج يلوك الذكرى في تبرم رهيب . يناشد الخلاص .
أشعل النار في جسده ، فتصاعد الدخان من مدخنة التبريك . أما البابا مازال حيا يرزق .