انتكست شيخوختنا محزنة، ومثيرة للشفقة. فارتسمت تجاعيد الأثر على السحنات. ولزمتنا الأسقام والعلل. فنعاني من آلام النقرس، وتشنجنا أورام المفاصل مقوسة ظهورنا، لنحتاج إلى عكاز نلقي عليه بقايا أجسادنا المترهلة الذابلة كأعجاز نخل خاوية. وعدمنا شهوة الأشياء خاصة شهوة الفرج، التي اندثرت طاقتها بالكامل في صنع سلالتنا حتى لا تتعرض للانقراض. فانقسمنا بين مؤيد ومعارض. وعاقبنا الزمان في صمت أصم دون أن نستشعر سرعة دوران عجلته، فأصبحت جدا أناجي أحفادي بحكايات العنفوان حتى يتجنبوا مشقة السفر في دروب الحياة الخاسئة، وليستأنسوا بأوهام التاريخ التي تنزلق على مدراج السطوة الرهيب المفعم بقسوة الاستعمار آنذاك.تجوب عيون القوادين للبلاد والعباد في كل حين وأمد.
انشرحت النفوس المطبوعة بحبها لفرقتها المثالية، واستكانت تعب من كأس الشدو والنشوة، بعدما طفقت شمس الأصيل ترمق بحمرتها الداكنة الجانب الأيمن لقباب المعاشات. لينساق الليل معسكرا في الأفق، كتلك الجيوش التي تجر أذيال خيبتها، بعدما لم يحالفها النصر المبين لسنوات عدة انقضت. قد يغلبون بعد غلبهم في بضع سنين، إذا توحدت العزائم، وأعدمت الخيانة في النفوس المكسوة بالتواطؤ والخذلان.
بنيت الخيمة الكبيرة على حافة القباب الأربع، لتنجلي ماهية القداسة في أنساقها وتوابثها.اجتمع حشد هائل من المدعوين بجلاليبهم الشاحبة التي لا تكاد تغطي نصفهم الفوقي، ليرتع القمل سائحا في هوامشها مشبعا بالأوساخ وروائح الكدح العطنة، بالرغم من ذلك لا أحد ينكر شغفهم بحبهم الراسخ لبواعث الغناء والطرب. انها ليلة العمر التي ستنسيهم قرف الاستعمار، وسحابة يومهم المشاكسة في حقول الباشا الذي يلتهم لحمه، ويشرب دمه، فما بالك اذا اشتد حنقه وغضبه للاخرين.
بعد صلاة العشاء، تجمهر الجميع حول فرقتهم التي هي بمثابة شمعتهم التي تضيء القلوب بالنجوى. المغنية عائشة بنت المعاشي تتحف النفوس الظمآنة بصوتها السلسبيل، ووجهها المزركش بكثرة الأصباغ من مطليتها، كأنها ملاك يبسط نوره على هذه الوحشة القاتمة، فترقص رقصها المخالف خاصة بعدما يشتد وطيس الناي من فم حميد ولد الغربي، لتنحني على ركبتيها، فينهدل شعرها حتى يبلغ فجوة كفلها، لتحير الأبصار، وتنكوي برحمة النظر فقط التي يفرضها قانون الطرب المتجذر في العقول البشرية منذ أول رقصة أدمية. لتقوم من جديد، وتهرول على مقدمة أصابعها، وتلطم بمؤخرتها " كوفال" المشهور هو الآخر بإتقانه لضرب الدف على أعلى مستوى، فيتلوى برشاقة يدوية مبهرة مع دفه، ويتظاهر بالسقوط، فيتعالى الضحك والصخب والتصفيق. ويسترسل الغناء كدبيب يكسر موطن الأسرار، لتفوح عائشة بسرها الدفين في غنائها، كأنها تريد أن تبين العواقب التي تنظر الباشا:
" دار الباشا خلات
حنت مقابلة لمعاشات "
فتفتح الأفواه مشدوهة لهذه الجرأة الغير المعهودة، لم يعلم الحضور هل هي جرأة من عائشة ؟ أم انه تهور قد يلقي بها إلى حافة الهلاك ؟ لتنغرز السلطة المضادة للكلمات، كسهام حادة مسمومة في أذن الباشا المختفي في جلبابه الاشخم. لينط واقفا بخفة متناهية.مقتربا منها دون أن يثير اهتمام الآخرين، ويخرج ورقة مالية من شكارته ،ويبللها بلعابه، فيلصقها بضربة قوية على جبهتها. هامسا في أذنها بصوت خافت جبار:
" بعد نهاية الحفل، ستنعمين بالسجن لمدة ستة أشهر "
لم ينتب عائشة شعور بالخوف، فحاولت أن تجر معها " كوفال " المعروف بحدة ذكائه وقوة حيله، لينعم هو الآخر بهذه الهبة الباشوية. انه الإحساس الفطري الذي تملكه النساء دائما عندما تعلمن بمصيبتهن فهن تبدلن قصارى جهدهن لإشراك الرجل في خيبتهن حتى تخففن من حدتها.تزغرد وتصدح بصوتها من جديد في انسجام مع الموسيقى:
" اسمع يا كوفال
واش لحم لكلب حلال:
استشعر " كوفال " هول اللحظة، بعدما تيقن أن هذا الشخص بوقاره ووجهه الدفين تحت قب جلبابه، معبأ بأسرار شتى. لا شك انه من عيون السلطة التي لا يطالها النوم، وقد تفتك بالعباد إذا خرجت أرجلهم من الشواري من فرط الزيغ والشبع، ليرد عليها بعد أن لكز دفه بأصابعه بلطمة قوية:
" واش كوفال فقيه
يا بنت الكلب
لسيرا تسولي فيه "
فشاعت حكاية عائشة على كل الألسنة، معشعشة في الضمائر. فمنهم من أدرج ملفها ضمن الحق المشروع للمقاومة وحرية التعبير، أما الأتباع قد اعتبروا قضيتها خرقا للقانون ليحق عليها العقاب.
أما أنا فسألت أحفادي: " ما رأيكم أيها الأبناء ؟ ".