عودة الراس المقطوع

عودة الراس المقطوع

حين حكيت لهم ما عشته ذاك المساء بالبيضاء لم يصدقوني...

لم يصدقوا انني دخلت هذا البيت مع فاطمة على مضض .. وانها كانت تنهرني كلما حاولت الإفلات من ربقتها و العودة إلى كوخي حيث أقيم منذ لحظة صفري القسرية ...

وفي كل اندغام لشكي بيقيني ،كانت تهدئ من روعي و تؤكد لي في إصرار عجيب أن الأمور ستسير بالاتجاه الصحيح ...

دخلته وتحذيراتها تتعقب حركاتي كجرذان جائعة..

-لاتلمسي أي شيء من زينة السيدة..

-لا تنامي في سريرها .. فرائحة الجلد البشري أقوى من كل العطور والمساحيق المموهة...

-لا تستعملي حمام الضيوف ..و ثقي بان كل شيء مرتب في مكانه بدقة وذكاء..

وبما أن النظر المجرد إلى المرآة مباح دائما ،فقد ألقيت إليها بنظرة دلال،أخبرتني على إثرها بأنني صورة لفتاة جميلة ..لكن ما لاتراه المرآة أن سحاياي قد شاخت جراء التفكير في مصيري المجهول...

شعرت بالوحدة والفراغ ،فقررت أن اشغل نفسي قليلا ،حتى لا أمل ما منيت به من نعمة محدثة ..فانا منذورة لكوخي وألواحه الكالحة و قطرات مطره الأولى ،وهي تحفر في هامتي رقصاتها المجنونة ذات شتاء موغل في الناي...

هنا حتما سأصاب بالزكام والخبل ،قد اركب غيمة أو أدق عنق نعامة لكن لا بد أ ن أملأ وقتي بمهمتي الحقيقية ...أنا لست هنا للتذكر و التملي ..أنا هنا خادمة وعليها أن تنفذ ما طلب منها ..حتى وان كانت مشغلتي الأجنبية مسافرة في رحلة قد تطول أو تقصر، فانا متأكدة بان جميع نساء حينا القصديري يغبطنني على هذا الفجر الذي شق سماء حظي أخيرا..

نعم لم يصدقوا..

لم يصدقوا أنني مساء ذلك اليوم فتحت عدسة الغسالة وأخرجت محتوياتها من الغسيل قصد الفرز، وحينما علقت الملابس بالبلكونة أرحت بدني المتداعي على كنبة بغرفة المعيشة ،ثم رفعت صوت التلفاز عاليا،حتى يعرف الجميع أن بالشقة سكان ...كل اللصوص في حيي اعرفهم و يعرفونني ،لكن لصوص هذا الحي قد لا يعرفني منهم احد ، من يدري ...

هييء لي لحظة أنني سمعت دوي انفجار أو انفجاريين ربما ثلاث انفجارات ...لم يكن الصوت غريبا على سمعي ، فانا سليلة الحرائق المتكررة في كل المواسم، تارة بسبب تسرب غاز البوتان وطورا بفعل أياد خفية ، كانت ترى في وجودنا ، نحن أنصاف الآدميين ،من سكان الكيتوهات المتناسلة في شرايين العاصمة الاقتصادية ، وجودا يستحق الإعدام الجماعي ...الموسم اليتيم الذي كنا نتطاوس فيه ونحمل صفة الآدمية ،حينما يدنو موكب الانتخابات من نتونتنا وفقرنا العاري من أية مقدمات منمقة.

لم اهتم كثيرا لهذا الدوي ،لانني اعتقدت في البداية بانه انفجار قنينة غاز،وظللت أتابع المشاهد الرائقة لشريط أمريكي شيق للغاية . كان بطل الفيلم وسيما جدا ،تمنيت لو كنت مكان بطلة الشريط ، وراحت أحلامي تركض على الورود ...أخذتني الرغبة في أن اطمئن على صورتي إلى المرآة .استفتيتها باطمئنان ورضا ...و في رفة جفن غير متوقعة ،أحسست بالفزع ، وقد انعكس على مرآتي خيال كائن غير مكتمل...صحت منفلتة من صوابي ..ياالهي هل جننت؟ قبل قليل تمنيت أن أحظى بفتى أحلامي ،فلا يصيبني من الأمنية إلا. . راس..راس ؟.أنا متأكدة بأنني رأيت رأسا مقطوعا يتحرك ..بل يطير في فضاء الشقة ..

ماهذه الليلة ..ياربي ؟قبل لحظات سمعت دوي انفجار بالفندق المجاور،والآن يطوف بي راس مقطوع ...لا..لا..لاشك أنني اهذي ..سأشبه جدتي بالفعل ..فالهستيريا وراثية...جدتي أصيبت بهذا الداء اللعين قبل وفاتها ..لكني لازلت شابة ..وماذا يدعو امرأة عاقلة لتستحم عارية بساقية وسط بلدة ريفية ... حين سالها فقيه البلدة مشيحا بوجهه في الاتجاه المعاكس ..

-ماذا تفعلين في نفسك وفينا ؟ استغفر الله العظيم من كل ذنب عظيم...قالت..

-انها الحمى ،يا سيدي احمد ، الحمى...

وهل أنا محمومة ؟ سألت نفسي ..ربما..من الوجل .

لم يصدقوني ..

حين فتحت الشرفة المطلة على الشارع العام ،وصكت أذني هذه الأصوات المنبعثة من الخارج ،تراشقها أضواء سيارات الإسعاف و الشرطة و..حاولت جمع الغسيل ،فأصبت بصعقة مفاجئة ...

حبل الغسيل مقطوع و الملابس ملوثة ببقايا دماء وأشلاء ...وضعت يدي على فمي لكي لا اصرخ ..واجزم بان صراخي لن يسمعه احد مع هذا الضجيج و هذه الجلبة الآخذة في التنامي ..

لكنهم لم يصدقوني ..

حينما فتحت عيني في حيي القصديري ،كنت دوما احمل أمي مسؤولية عدم اختيارها للزوج الصالح ..احملها روائح الحي النتنة ...احملها رجوع أبي في الهزيع الأخير من الليل ،وهو يلعن ويهدد ويتوعد، فكنت أيام الدراسة الثانوية احلم بان تنصلح أحوالنا ،بعد حصولي على شهادة تخول لي العمل والدخل القار ،لأعلن الانقلاب على سلطان القهر والفاقة واخرج أسرتي من غياهب هذا الجور و الجوار الفاسد...

لكن تبين لي بعد ذلك أننا جميعا منذورون للالتصاق بالحضيض و التمرغ بين أعتاب الفقر ..تمنيت لوكنت أمية كأمي أو جاهلة جاحدة كابي ،ليسهل علي التماهي مع واقعي وواقع الآخرين ...فلا تخزني عزة نفس ولا إباء كاذب متى أتيحت لي فرصة عمل شاردة أو واردة...حتى الزواج شطبته من لائحة تقديراتي ،لان كل من تقدم لخطبتي ،هو من مدارنا ونبتة نشاز مثلنا ننزعها نحرمها الحياة ،كلما سرت اليناعة في وريقاتها ،حتى لا تمتص غذاء جاراتها نقيات النوع ..

قلت لهم كنت أترفع قليلا عن هذا العمل الذي قتل في النهاية أمي قبل الأوان...لكني قبلت هذه المرة كي لا يموت أبي وإخوتي جوعا ...ولأنني لم يعد لدي شيء كثير اخسره في هذه المعركة غير المتكافئة...خسرت الورقة الوحيدة ،التي راهنت على ربحها ،لأغير من حالي وواقع أبي و إخوتي ..و حين قررت أن أقبل بالأمر الواقع، يحصل لي ما حصل...؟

كيف سأنظف هذه الثياب وقد لاتمحي آثار الدماء منها ..كيف ياربي ؟

نزعتها كلها ووضعتها بتقزز داخل الغسالة من جديد ...امتلأت كفي بالدماء وفاحت منها رائحة اكرهها تذكرني بعيد الأضحى بحيي القديم ، وهذه الدماء التي ليست لها قنوات صرف صحي لتختفي تحت جلدها....

حكيت لهم هذا كله...

لكنهم لم يصدقوني...

و بينما أنا أندب حظي التعس وأفكر فيما يمكنني فعله... طاف بي الرأس ثانية مسربلا بالدماء ..صار يكلمني دون أن يكف عن طوافه بقامتي الحائرة بين الأرض و السماء و عيناي زائغتان في إثره كالمأخوذ بالقهر...

قال بثقة : مهمتي ستنتهي بعد لأي و عليك أنت أن تكملي المسار ... أنت هنا من أجل ذلك .. في غرفة المكتبة ستجدين رسالة فيها كل التعليمات ...

لكني هنا لأكسب قوتي ... أحضرتني فاطمة ... و...

هل تعرفين فاطمة جيدا...؟

لا.. رأيتها بالحي مرة أو مرتين ... فرقت لحالي و وهبتني هذا العمل...

فاطمة تبعنا...و عليك الآن أن تنفذي المهمة ... وإلا...

أحسست بسائل دافىء ينثال على قدمي المرتعشتين وأنا أتجه صوب المكتبة ...انتظرت أول فرصة سانحة لاختفاء الرأس و سرت باتجاه باب الشقة كالسهم ..فتحته بقوة المذعور ونزلت أركض على الأدراج إلى أن تلقفني الشارع أخيرا...

رأيت رجال الأمن لا يزالون هناك يقلبون في أنقاض فندق الفرح ، الذي لم يعد فرحا..وسيارات الإسعاف تحمل أشلاء الموتى والمصابين إلى وجهات غير معلومة...

كل بقعة أخطوها إلا و بها آثار عنف و دمار وأشلاء و.. رأس مقطوع تماما كذلك الذي طاف بي في سماء الشقة .

قصدت شرطيا توسمت فيه خيرا .. أعطيته الرسالة وحاولت أن أشرح له ما حصل معي ، لكنه لم يصدقني .أحالني إلى رؤسائه.. سألوني بدورهم عن تفاصيل ماقلته للشرطي .. تبادلوا النظرات في ما بينهم و لم يصدقوني ...

لم يصدقوني...

نظرت إلى هذه الأشجار الجميلة بالحديقة الشاسعة حد البصر ، و تابعت حديثي مع وردتي ...

وحينما لمحت صديقتي فاطمة مقبلة علي بوزرتها الناصعة البياض و الابتسامة تعلو محياها ، عرفت أن لعبة اليوم قد أوشكت على الانتهاء... فصرت أقطع ورقات الوردة واحدة تلو الأخرى ، و أقول بسعادة غامرة ...

صدقوني ... لم يصدقوني ...

صدقوني ...لم يصدقوني ...

صدقوني... لم يصدقوني ...

ألقيت بتويج الوردة على عشب الحديقة ،و تعلقت بذراع صديقتي ، باتجاه غرفتي الصفراء وهي تهمس لي: أنا صدقتك...

رشيدة عدناوي
الدار البيضاء ماي 2003

و الله يااختي رق قلبي لهذه القصة الرائعة وقد دمعت لحال ما يتخبط في ابناء هذا الوطن من فقر وعوز وشظي ,,,
بغض النظر عن الجونب الشكلية في القصة لاني لا اتقن النقذ الادبي ...الا ان جانبها العميق يستحق الثناء ثم الثناء
دمت فرحة

أشكرك أختي سميرة على مرورك البهي وتفاعلك الجميل مع النص. دام لك عبق الحرف وعشق الكلمة ...
مع تحياتي

نص رقيق وشفاف ممتع ودقيق بتفاصيله

تحياتي

يسعدني مرورك بين تلابيب النص وتماهيك معه .
دامت لك متعة القراءة.

» عودة عمر
» عودة من موت محقق
» عودة غودو
» عودة الجريح
» عودة الروح