غـــــــــــروب بقلم: حسن ليلي
تاريخ النشر : 2012-07-30
غـــــــــــروب
قصة بقلم القاص: حسن ليلي
المغرب الدار البيظاء
أتت راكيل تحمل الشمس على رأسها، شمسا تكنز في جوفها دفق الحياة، ووهج الأمل تنعش كفي كلما لا مست شعرا غجري الانسياب في عيني راكيل يسكن البحر ثائرا، هادئا سحيق القرار.
أتت في الموعد كعادتها دائما، بليغة الضبط والدقة، الساعة السادسة مساءً، مقهى النخيل حينما يهل وجه راكيل تتسمر الشمس مكانها وتعلوا أديم البحر وداعة بامتداد الأزل، تتعلق لحظة الغروب ويتوقف الزمن، ثم يمتهن خافقي نبضاً أحتار في تحديد مصدره. أهوة الحب؟ هناك أحببت كثيرا وكانت كل تجاربي تنتهي بظهور غول يخطف هينة من بين جوانحي ويرميها في أغوار دهاليز لا تبرحه، لقد تعلمت كيف أعطي حياتي معني وأجعل لها غاية دون عبور بوابة المرأة، أهو الزهو بالجلوس أمام شقراء أسبانية تشع جمالا بملامح أسطورية، على طاولة مقهى يؤمه زبائن كثيرون، لطالما قرأتُ في أعين العديد منهم نظرات الاستغراب حينما تقع علي صحبة راكيل، أم انهُ الاندهاش الكاسح يخلخل كياني، نعم أنا هنا على الضفة الأخرى، دق أيها القلب الحرون.. دق من حب .. من فرح ... من اندهاش .. دق .. دق .. دق.
الطريق يمتد أمامي، دقيقاً طويلاً كأنهُ ثعبان الأحاجي، أسير متثاقل الخطى، الهث تحت ثقل حقيبتي الثابتة على ظهري، تجاوزني المدير في تجاهل مقيت راكبا دراجته النارية من نوع بوجو 103 وعند وصولي إلى المدرسة الفرعية متأخرا عن التوقيت العادي للعمل بدقائق معدودة، رأيتهُ يفتح محفظه جلدية بحجم كبير، نال منها البلى ثم بسط ورقة مطبوعة أمام ناظري: استفسار عن سبب التأخير، ارتسمت على وجهي ابتسامة ازدراء وسخرية، وبحركة عصبية بهلوانية جلس إلى الطاولة وكتب على نفس المطبوع عبارة: امتنع عن الجواب، ثم تلا ذلك بعد بضعة أيام خصم من الراتب مصحوب بتنبيه لقد أعذر من أنذر، إلى الجحيم أيها الشخص التعيس، بإدارتك، باقتطاعاتك، وتنبيهاتك، أتركني أجتر ألامي صحبة رفاقي في البيت الخرب، ( دار دراكولا ). السنة الريح تصر بين الأخشاب المهترئة لنافذة الغرفة، تلسع جوانبنا برودة ننكمش إثرها على أنفسنا، استجداءً للنوم.
أنا لستُ شارداً يا راكيل، فقط تذكرت والدي وإخوتي، آه لو ترينهم ستحبينهم حتما يا راكيل، أنهم طيبون أبي وأمي ينبوع حنان لا يجف لهُ معين، يوم ودعتهما تحجر الدمع في عينيهما وشابكا أذرعهما حولي، ملأت رائحتهما خياشيمي، فكرت في العدول عن السفر لكن لوثة الرحيل المطمرة في قلبي كانت تحرضني على الانطلاق: أنت لا ينقصك شيء، لكا وظيفة وبيت يؤويك وأجمل فتيات الحي يتمنينك عريساً، و .. و.. و..
يا أمي الحبيبة
ويا بويا الحنين
ملي شفت تقويسة ظهري
مع تكماش الخدين
ضام خاطري يا لميمة
وبالدموع فاضت العين
راكيل: أخوتي أسد ظهري، قناديل تبدد ظلمة طريقي، أختاي بسمة الصباح، ونسمة رقراقة تثلج الصدر إبان الهجير لكن بقائي جوارهم يقابله موتي، الرغبة في الاغتراب من منظورهم بطر للنعمة ونوع من سخونة الرأس، آه لو يدركون يا راكيل سر عشقي للبحر، وإصراري على الرحيل، لنسجوا لي أجنحة من خلايا أرواحهم أفردها لهبوب أعتا الرياح لأجتاح مكنون السفر.
حينما تمتص راكيل نفساً عميقاً من السيجارة المشتعلة بين أناملها الدقيقة وتنفث الدخان سحباً سرعان ما تتمزق حينما تعلو مستوى جبينها، يتبقع وجه راكيل في ما يشبه غضباً طفوليا لا يزيدني ألا شغفاً بها، ظنتني مستهزئا لما شبهتها بمارلين مونرو وسامتا ورشاقة. وجهة الي نظرات ساحرة في جمودا ثم ردت بأن مونرو كانت غبية، حيث تورطت في علاقة مشبوهة برئيس دولة. كم تبدين جميلة يا راكيل، فاتنة في بساطتك وسذاجة الأناقة فيك. حديثك عذب خال من التصنع والافتعال. شامة بنت بريطل تتسلل من الريبرتوار، الذكي للمرحوم خليفة ، الفم أحمر كشكارة والشعر صفر مسبسب كزغب لكبال، والشفار دركة شوكها يكدد كلب العيان. اخترقي شامة سحب الحكي مختصرة المسافات والأمكنة في رحلة سندبادية لتتربعي على عرش الجمال في أستورياس، هل أكون أنا لبزخ الذي أختلس ثروة أبية ونثرها تحت قدمي بنت بريطل عساها تقبل به زوجا؟ عفوا راكيل، أنا لا املك إلا نفسي وعزيز علي أن أمهرك نفسي، قدم لي سانتا قهوتي المعتادة، وضع أمام راكيل كأس بيرا، لم تكن راكيل تعلم أن كل كأس تحتسيه يمحي حيزا من مساحة عشقي لها، أي أبي أيها الرجل السمح ، الطيب، ماذا لو عدت متأبطا ذراع هذه الفاتنة التي تدخن من السجائر الكثير وتكرع كؤوس البيرا باستمرار، هل ستمطرني شأبيب دعواتك الصالحة؟ هل سيدثرني رضاك عند غدوي ورواحي؟
عوائي يملأ فضاء الدريبة والمطر ينهمر قاسي البرودة، يتملكني الاندهاش وأنا أتساءل اليوم، كيف يصدر الصراخ بهذه الحدة عن جسم نضو مشدود بوثاق صارم إلى سارية كانت تتوسط بهو البيت الواسع، والسوط يلتهم جسدي مشعلا حرارته، كنت أحس أني أتمزق، وبكاء أمي يصل إلى سمعي مكتوما خجولا من غرفة مجاورة محكمة الإغلاق، أتدرين أيها الفاتنة لماذا مورست على هذه الوصلة التعذيبية؟ أنها نتيجة وشاية كاذبة من امرأة، أبلغت أبي بأني كنت أدخن عقب سيجارة قرب فران الدرب، كم كان أبي شكسبيرياً!! فهو كذلك يغلظ في قسوته لكي يكون رحيماً.
تتجمد حدقتا راكيل، وتشل حركتها وهي ترقب الغروب، فتبدو تمثالا فضيا، بالغ ناحتهُ في تشكيل ملامحه. لما أبتلع البحر قرص الشمس واحمرت وجنة الشفق، تنهدت راكيل بعمق وأمسكت كفي بأنامل حريرية الرعشة، شعرت وكأنها تكشف وجودي للتو.... قالت في ما يشبه الغزل بأنها تحب عيني بجنون لأنهما تحملان سرا يصعب استكناهه.... عجبا لقد كانت أمي حين أثير غضبها بشقاوتي تصف عيني بالكوتين.. لا يا راكيل عيناي لا تحملان سرا، بل تفضحان الحزن الحاتل في معميات النفس، تستمرئان المعاناة المحايتة للروح ترشحان الألم الرابض في الحشاش، أنا جلاد نفسي وضحيتها، أرتمي في ملاذك فأجد الحب الجارف وغدق الحنان، ونوعا من مصادرة الحق في أن أكون أنا ... أحبك يا راكيل، وإن كان يسعدك أن أوشح روحك بقصيدة غزلية مطلع كل صبيحة فعلت، فأنا من سلالة لا تتقن سوى تنميق الكلام. لكن هل يضرب النخيل جذوره في عمق الصقيع؟
حسن ليلي
صيف 2006