في البداية تصادفك مفاجأة الدفء وأنت تفتح لتدخل قصائدها الخلابة بعمر ألوان الربيع رفقة الشاعرة الجميلة والعاشقة سعيدة عفيف .لأن صناعة الشعر الجيد والمشوق والمفيد هو هكذا .لغة حساسة مبحرة وعميقة في بحر اللغة المعدن النادر والغالي والمدفون بكل عظم الجوهر الثمين . الذي يضفي عليها روح المتعة الجمالية الجذابة .والتي بدونه لا يمكن أن تعيش الحيوية ومتعة التواصل مع جل القراء .لأن عمق اللغة في الشعر هو العنصر الرئيسي لحصولنا على شعر عميق الرؤيا والإحساس ،وعلى معاني غنية في ظلال فلسفة معطاء .فبدون عمق لغوي يبقى الشعر سطحي المعنى وباهت الحصيلة وضعيف الجمالية اللغوية الخارجية .
تقول سعيدة في مفتتح لغتها الشعرية العميقة تحديدا قصيدة ( معنى أخضر )
يااهْ.. كيفَ يغيبُ الدِّفْءُ
وَ يَحْضُرُ في آنْ؟؟
مِثْلَ الشَّمْسِ الْخَجولَهْ
تَنْزِفُ خُيوطَ مَطَرْ،
في صَباحاتي الشَّتْويَّةِ الْبارِدَهْ،
إنه الحضور اللغوي لما يطلع من جهة ما كشمس الربيع الدافئة .وإنها الألفاظ الزاهية لما تتلاقح فيما بينها خالقة من توالد الكلام عبارات ساحرة وأفكارا مثمرة .شكلها كشكل لوحة جذابة تتوفر على جل عناصر الإبحار في قواعد الرسم محدثتا زلزلة في مخيلة المتتبع والقارئ ،يغرف منها على حسب كفاءاته وإمكاناته التحليلية .وعلى حسب مستوى وتنوع تربية تذوقه للإبداع.أما فيما يخص اللغة فالعناصر الرئيسية التي تضفي عليها سحر الشكل وتوالد الأفكار هو حسن عمق الفكر والتصور لدى الكاتب ،وكذلك مدى تحصيل وتنوع تجربته العلمية والاجتماعية .فإذا توفرت هذه العناصر سنكون إذ ذاك أمام منجز إبداعي رائع وجميل من الجوانب جميعها .
وفي موضع آخر تضيف الشاعرة
و كَما تَلْتَصِقُ الشَّفَتانِ
بالْكَلِماتِ الْمَرْمَرِيَّةِ النَّدِيَّهْ
و الْمُوسيقىَ العَسَليَّةِ الَّتي
تَطوفْ..
تَأْبَى أنْ تُغادِرَ الْعُيونَ
تَرْنُو.. تَهْفُو..
عَلى أَفْنانِها
و تَتُوقْ..
تَألَّقَ الْمَعْنىَ الْأَخْضَرُ
في يَوْمي
ليغدُوَ فَصْلِي الرَّبيعُ
هلْ تَغَيَّرَ شيءٌ مِنْ حَوْلي..
أَمْ أَنا مَنْ تَغَيَّرْ؟
هنا تتساءل الشاعرة هل تغير شيء من حولها ؟ أم هي من تغيرت ؟وبالفعل تم التغيير من حولها ،لتتغير هي كذلك من الداخل .فلا يمكن للتغيير أن يحدث من الداخل حتى يتغير الشيء من الخارج كتغير المحيط وما يحتويه .وكذلك كتغير اللغة المرمرية والإيقاعية التي دفعت بشاعرتنا نحو التغيير من الأسوأ إلى الأحسن .بحكم سلك مسار نهر اللغة الرقراق الناعم والصافي من كل الشوائب .وهي ذي لغة الشاعرة منذ عهدت لها بالمعرفة والقراءة .فهي دوما تبحث عن لغة مصقولة مرفرفة وسابحة في ملكوت تناسق الحرف والكلمة بما كل ما أوتيت من سحر اللفظ والعبارة لتخلق لنا عالما لغويا معطاء وغير متجاوز ،ولتؤكد حضورها اللغوي والشعري الوازن والمتجدد في ظل صراعات إبداعية راهنة مختلفة المذاهب والمدارس .وهذا حقيقة ما يعجبني في مسار لغتها منذ البداية .فهي تأبى إلا أن تأسرك بعذوبة أنوثتها اللغوية متسلحة بكل مساحيق التزيين اللفظي والحرفي مشطبة بإزميلها على الزائد من الكلمات لخلق فضاء لغوي، صوري متناسق.
أخيرا تأبى الشاعرة إلا أن تختار وهي تقول :
سَأَدْفِنُكَ في اللِّحاظ الَّتي
لا تَفِرّْ..
و سَأُطبِقُ عليْكَ دُنيايَ الَّتي
مِنْ طينٍ و عَسَلْ..
لا أُفَكِّرُ بِإِحْراقِ تُخومِ الْحُلمِ
المُرصَّعِ بتغاريدَ عَدَنِيةٍ
و بِخَريرِ ماءٍ كَوثَريّ..
يا لحُضورِكَ الدّافِئِ
الأخضرْ..
..........
إنه الاختيار الأنسب الذي تأبى الشاعرة إلا أن تسلكه أسلوب شعر لفظي وعمق فكرة .وهي قاعدة علمية ايجابية لتحقيق الأجود في مسار الكتابة النثرية الحديثة الهادفة .فبدون تشكل اللغة المتجانسة المتجددة بما يجعلها مقبولة للقراءة والتحليل كمزجها بمكونات صناعة النص (تيماته،عوالمه التخييلية ،قطاعاته الدلالية ،بنيته اللغوية ،سماته الأسلوبية ،تفاصيل الإيقاع ،نسيج الرموز وكذلك التشكيلات النفسية ) .نكون قد جنينا على مجهود إبداعنا بالنقصان ونفور القارئ من متابعته .وإن كان هنالك من يطبل ويزمر لبعض الإبداعات التي هي في حقيقة الأمر مقززة ومحتشمة .إلا أن الأيام كفيلة بعملية الغربلة واختيار الأجود .
وعليه ومن خلال هذه الجولة المختزلة في قصيدة من قصائد الشاعرة سعيدة عفيف ،تم استخلاص أن جودة المنجز الإبداعي مكمنها في جو روح اكتساب أدوات ضوابط شعرية مبتكرة ومحكمة و لا يمكن نجاح أي منجز إبداعي خارج ظل إرشاداتها وتوجيهاتها .والذي هو حاصل الآن في فوضى الكتابة دوافعه عدم التزام العديد منها بقواعد أو ضوابط مهيكلة .فقط كتابها غير معنيين بالتزام قوانين الكتابة ولا بتجميل مظهرها وعمق فكرتها ولكنهم يتلاهثون لأجل تلميع أسمائهم وفرض حضورها لا غير .وهذا ما جعل الساحة الثقافية تمر من مرحلة حرجة في انتظار نقد كفء ،منصف ومحدد كباقي حصيلة نقد مراحل الحياة الثقافية الماضية.
وفيما يخص إشارتنا لشعر اللغة ليس من جانب الصدف تحدثنا عنه ولكنه فكر تنظيري تحصيلي مستخلص من واقع التجربة اللغوية الشعرية التي تحفل بها العديد من قوالب الأشعار المتميزة التي تعتمد بالأساس على لغة متينة وخلاقة تجعل من التعبير إيحاءات شعرية معمقة وجميلة مثلها كمثل هذا النص الذي نحن في خضم تحليله ومناقشته ،والذي يعتمد على تأسيس لغة شعرية موحية ومعبرة تغرف من صور نسيج اللغة ذاتها والتراكيب التعبيرية نفسها .للخروج بمنجز لغوي قوي وهادف .
والذين يتبعون هذا المسار يحترفون مقام اللغة ويعلمون بخبايا أسرارها وتكوينها .ويهدفون إلى إحياء اللغة الأم ونزع القشرة السوداء التي أصابت اللسان العربي الفصيح ،والرجوع برموز كتاب الأمة إلى الغرف من منبعهم الأصلي لأجل روي وتصويب أعطاب لغة الآخر .وهذا عمل مضني ومحمود النتائج لتصحيح المسار .
والمتتبع لحال مشاهد التعبير اليومي الذي أضحى يتخلل كتاباتنا يلمس وبقوة تردي الفعل اللغوي الصحيح ،وعلى أن المتعاطين لحرفة الكلمة والإبداع أصبحوا يكتبون بأي كلمات كانت ركيكة أو سخيفة لا يهمهم ،لأنهم تزعجهم تكاليف البحث عن كلمات راقية وعميقة الدلالة والتشبث بقواعد مفيدة ومحررة .فقط ربوا أنفسهم على لغة كلماتها سهلة وجاهزة تناسب كسل أفكارهم وطموحهم . مما ساهم في كهربة الجو العام الثقافي والتواصلي .والدفع به الى التردي السحيق .
وللخروج من هذه الأزمة الحاصلة بفعل حاصل لابد من ضبط إيقاع قواعد اللغة وبلاغتها والدود دوما عن صيانتها من كلام باهت دخيل أو ضعيف .وكذلك إتباع خطوات التجديد في سبل وأشكال الكتابة الفكرية المعمقة .
سعيدة عفيف شاعرة من المغرب
___________________