الجميل ، هو أن قصائد الشاعرة رشيدة فقري تشتمل على جملة من التشاكلات.
فعندما نتمعن في نص (رحلة)، وفي القصائد الأخرى التي اعتمدناها في دراستنا هذه، نجدها يغلب عليها الإخبار.. وهذا لا ينفي وجود الإنشاء.. ولكن يؤكد قلته.. فعندما نتوقف إلى بعض قصائدها ، مثل (سأبسط لك الغيم)، و(السفر إلى الضياع)و(صوتك مطر) وغيرها من القصائد....فإننا نجدها كلها افتتحت بالخبر وانتهت به..إذ اعتمدت التأكيد بداية ونهاية.. فكانت الجملة (سأبسط لك الغيم) البداية أو الافتتاح، و(سأكون رشة عطر في معصمك)الختم والنهاية. وذلك بتوظيف (السين التسويفية) لتاكيد هذاالإخبار... وكذلك في القصيدة الثانية ابتدأت بسياق خبري، وانتهت به...حيث جاءت الجملة (أسقط في كفك) افتتاحا ،أو بداية و(وأعلن اختفائي في صمتك) نهاية،و ختما...
والملاحظ أن قصيدة ( رحلة )، والتي تقول فيها:
أجرجر قدمي بحثا
عن اعراشك...
لأستجير بها
من ارمضاء
وجهي الطفولي تلفحه الشمس
ها احلامي..
تنقرض
بدون وعد مسبق
يا أريج عباءاته العربية
يا سمرة المحيا
يا صدرا اضع عيه رأسي المتعبة
كيما تهزني
الريح العشوائية
وأغمض عيني،
واحلم .. في قلبك بوطن
وطن
لا يعرف البؤس
أستنشق فحولتك
في كل الفضاءات
أستكين لهمسك الدافئ
ها أنا ..ذا
أرمي أثقالي أرضا
كي أكون .. حملك
طالت رحلتي سيدي
طال بحثي
بعدد خطوات عمري
بعدد.. انهزاماتي
بحجم .. أحلامي
فلا توقظني .. أرجوك
دعني بين أحضانك
مائة سنة
ألف سنة
إلى الأبد
دعني
أستنشق الحياة..
في هذه القصيدة نجد نوعا من التشاكل. وهو ابتداء الوحدة الأولى بضمير متكلم مفرد، مستتر...(أجرجر قدمي= أنا)، واختتامها بمثل ذلك أيضا(أستنشق الحياة= أنا)...
وكما يقول الدكتور عبد الملك مرتاض:" والأنا هنا، لا يمثل السلطة، كما قد يذهب إلى بعض ذلك أصحاب الاتجاه النفسي في تأويل الأدب. ولكنه يمثل الوقوع تحت وطأة هذا السلطان"
[1]...
لكن - كما يقول الدكتور مرتاض- الدلالة السيميائية للأنا تنطلق من تحت إلى أعلى.. حيث أننا نتبين العلاقة التي تربط الشاعرة بالمتلقي(هذا الإنسان الذي تحبه)، ومدى الإحساس الذي تستشعره،وتتلبسه... الشيء الذي دفعها إلى تفجير هذه الأنا، وجعلها تنطلق إلى التعبير عن مواقفها، وعن مكنوناتها.. وعن روابطها، وعلاقتها نحو هذا الآخر المتميز، والذي جعلته أعراشا تحتمي بها من الرمضاء، وأريجا، وسمرة تتلبس محياها، وصدرا تستريح إليه كلما أحست بالتعب...إنها تجد فيه الحب يتدفق بكل المشاعر والأحاسيس...
إنه نوع من استيقاظ المشاعر، وتحريكها..فالأحاسيس والروابط الجياشة، والشعور بالمحبة الدافقة، هي التي جعلت هذه الأنا تستيقظ، وتعبر دونما تحفظ.. وتجعل الماضي حاضرا، والحاضر مستقبلا...
ولا يقف الأمر عند التحريك، وتفجير العاطفة، وإنما يذهب الأمر إلى تبيان العلة..أي أن ما بين الابتداء والانتهاء..تتدرج العلة.. في لوحة شعرية جميلة..وتعبر عن هذا التدرج بوضوح لفظة (كي) المقترنة بالفعل المضارع(كي=أكون- ما تهزني)..وهما فعلان يبينان حالة نفسية شعورية، تتغير حسب المواقف (بحثا- أستجير- أغمض- أحلم- أستنشق- أستكين- أرمي- طالت- رحلة- بحث)..
وهي حالات تمر منها النفس الإنسانية حسب المزاج الذي يكون لحظة الشعور...ووليد ظرف معين.
والأفعال التي عللت سير التحويل من كائن ارتبطت الشاعرة به جراء علاقة خاصة.. دواخلها حب واستئناس وسكينة... والذي عبر عنه فعل (أجرجر- أستجير).. ف(أجرجر) كفعل يحمل دلالة التغيير من حالة إلى أخرى.. وقد جاءت بعده بعض الأفعال غلب عليها الزمن الحاضر(أستجير- تلفح- تنقرض- أضع-أغمض- أحلم- يعرف- أستنشق- أستكين- أرمي- توقظني- أرجو- دعني- أستنشق) ، وهي تبين واقعية الحالة، وتزامنها.. واستمراريتها...
كما أنها يغلب فيها الحضور، لنتبين من خلاله قوة الروابط، وتوهجها.. واستمساك العلاقة.. وقوة الحب والعاطفة.
وعندما نقف إلى (أجرج)، نجد فيها نوعا من التشكل الواعي، والذي تدخل فيه إرادة الشاعرة وذاتيتها، وقصديتها..إنه اختيار تم عن وعي وتمحص، وتفكير... فهي لم تلجأ إلى التحويل والتصيير إلا بعد تقليب الأمر من كل جوانبه.. وبالتالي تبعته مرحلة الاقتناع الكلي، والرضا.. والإيمان المطلق... لتتبعه بعد ذلك عملية التحويل والتصيير حسب .الصورة المثال..أو الصورة النموذج.. وهذا نوع .من البجمالونية التي تعيشها الشاعرة رشيدة فقري...
إن التصيير شكل على نموذج الذكر/ الحبيب الذي تضعه في مخيلتها، والتي توافق صورة الرجل النموذج الذي تضعه في مخيلتها.
تقول في مقطع من قصيدتها(رحلة):
طالت رحلتي سيدي
طال بحثي
بعدد خطوات عمري
بعدد...انهزاماتي
بحجم...أحلامي
فلا توقظني ...أرجوك
دعني بين أحضانك
مائة سنة
أف سنة
إلى الأبد
دعني
أستنشق الحياة...
ففي هذه المقاطع نجد السياق الخبري يتقاسم السياق الإنشائي...ولو أنه حدث تقديم للخبر وتأخير للإنشاء... حتى تبتعد الشاعرة عن السقوط في الكلام الأملس العادي...
وإذا ما لاحظنا الأمر والنهي الموظف، نجدهما كونا لنا بنية تحقق فيها التشاكل والتباين...
كما نجد في نفس القصيدة المقطع التالي:
وجهي الطفولي تلفحه الشمس
ها أحلامي...
تنقرض
بدون وعد مسبق
يا أريج عباءته العربية
يا سمرة المحيا
يا صدرا أضع عليه رأسي المتعبة
كيما تهزني
الريح العشوائية
فنجد أيضا تشاكلا يلعب فيه النداء دورا كبيرا...... فالنداء في السطر الخامس والسادس ، جاء فيه المنادى مركبا،ومضافا..(سمرة المحيا- أريج عباءته )،يجعلنا ننتظر ماذا بعد هذا النداء، ولكن لا توقع الذي سيحدث، لأننا لا نعرف ماذا سيقع، وهنا تكون المفاجأة، والتي تنهي انتظارنا...وتملأ فراغ توقعنا...إن هذا النداء سببه شيء واحد... هو أن تبين للمنادى مدى تعلقها به، وحنينها إليه.. ورغبتها في أن تبقى في حضنه وجواره...
وبعد تبين السبب، يتجه الانتباه إلى منادى آخر... قريب جدا وهو الصدر الذي تضع عيه رأسها المتعبة... والذي يأتي (مفردا) والذي يزيل الشاعر كل واسطة، بينه وبين النداء عليه.. ويزيل كل الحواجز التي تبعده عنه.. فيجعل أداة النداء ملتصقة به، فنتبين في ندائه الحسرة والفجيعة، والألم ...نداء فيه نوع من الشوق، والحنين... وهذا يخلق نوعا من التباين...
وعندما نتمعن في قصائدها، نجدها تعكس الخصائص الشعرية الأساسية المهيمنة في شعرها. فكل قصيدة تحمل لها خصائص تميزها.. لكنها امتداد لتعبيرها الشعري.
إن شعرها ذو ظلال ،تخفي المعاني.. والحياة.. وهو ينبني على حوارية.. تخلق فيه نوعا من التوتر والحركة.. فلو تأملنا قصيدتها(ذكرى)، والتي تقول فيها:
انزويت
ألملم أوجاعي
أطارد أوهامي
أحاول
اقتناص الذكرى
المنفلتة
الهاربة
أحاول استعادة صورة
تتسرب من بين أصابعي
سمكة في ماء
فنجد أن فعل( انزويت) يخلق في القصيدة نوعا من الحركة.. والحوارية.. إذ الخطاب موجه إلى المستمع والمتلقي.. وجل قصائدها تسير على هذا النحو، ما دام العنوان يحمل في طياته ودلالته مخاطبا وجهت إليه هذا الشعر، وهو (هذا المحبوب الذي ألهب قلبها حبا وحنينا)... ومن ثم تتوالى الأفعال ، إذ نجدها في القصائد المعتمدة في هذه الدراسة بلغت 253، موزعة على الشكل التالي:
- الفعل المضارع: 194 فعلا، مشكلا نسبة 76.67
%.
- الفعل الماضي: 51 فعلا. مشكلا 3.17
%.- الفعل الأمر: 08 من الأفعال. مشكلا 3,25
%.ومن هنا نرى أن الشاعرة عمدت إلى استحضار الماضي، لتشكل من خلاله الحاضر والمستقبل...كما أنها تشكل خطاها من خال الماضي لتنتقل إلى الحاضر وتتموقع فيه...ولذا يشكل الحاضر نقطة الانطلاق... من خلال مرجعية ماضية تم استرجاعها جراء حالة شعورية عارضة.هكذا يتتكلم الشاعرة رشيدة فقري، تعرض، وتستعرض..تؤكد وتبرهن..تكشف.. والطرف الآخر والمتمثل في من وجهت إليه الرسالة / القصائد: (الحبيب)... وكذلك من وجهت إليه بعض القصائد الخاصة(الوطن- المدينة)...فهو يتلقى ، ويسمع... ولكن لا نعرف رد فعله.. ولذا الأفعال التي استعملتها الشاعرة جلها أفعال مضارعة... ومن خلالها تعرض واقع الحال.. كما نتبين من خلالها أن الشاعرة والمخاطب الموجه إليه بشعرها شيء واحد.. أو على الأصح يشكلان كيانا واحدا... ويمتحان من مصدر واحد ، وهو التآلف والمحبة، والألفة...لقد وفقت الشاعرة في رمزها، وتشاكلها، وبالتالي حققت من خلالهما جمالية القصيدة، وفنية الشعر..
[1] - د. مرتاض، (عبد الملك)، التحليل السيميائي للخطاب الشعري،
اتحاد الكتاب العرب، دمشق، (د- ط)، 2005، ص: 34