د. فاروق مواسي
شاعر وكاتب من فلسطين
من أهم وظائف الأدب أن يعكس تجربة الأديب، يصورها لنستمتع بها، أو لتتصادي في نفوسنا بما تداعب به عواطفنا وأفكارنا ومخيلتنا.من هنا تروق لي كتابة السيرة والسيرة الذاتية وأدب المذكرات والرحلات وما شابهها، مع أن بعضنا يري فيها كشفًا خاصًا لا مبرر له، ناسين أن الكشف الذاتي هو أصلا وقبلا من مقومات الأدب وأسسه.
ومنذ أن طالعت أيام طه حسين وحياة أحمد أمين تابعـت الكتابات الذاتية، فكنت أعايش وأرافق، وأحب وأنفر، وأعاتب وأخاطب.. وما زلت أذكر كيف كانت صحافتنا تنشر في الستينيات والسبعينيات انطباعات عن رحلات معينة هنا وهناك، فكان بعض كتابنا يقدمون مادة سائغة وشائقة.فأين تجد مثيلا لمذكرات الأستاذ سليم نحاس بعد تقاعده؟ وأين تجد أسلوبًا كأسلوب الصديق محمد علي طه في انطباعاته عن رحلة قام بها هو ونبيه القاسم إلي تونس؟
أسأل ذلك، لأن الأدب الذاتي يحتاج إلي قلم صناع، وخفة روح، وقبول رائق ،وإذا قصرت حديثي هنا علي أدب الرحلة، فإنني واجد علاقة قوية بين هذا الأدب وبين القص، ففي كليهما تعرّف واستكشاف، وسرد ورواية وجذب ومشاركة.
عرف العرب قديمًا أدب الرحلة، أولا بسبب الحج، فكان لا بد من معرفة الرُّبُط والحبوس التي يقيمها أهل الخير علي الطريق معونة للحاج في جهاده الأصغر. (هل أذكر لكم في هذا السياق أنني حققت في بداياتي الأكاديمية مخطوطًا عن درب الحج للفيومي استأثر به المحاضر، ولا أدري مآله ،وثمة حوافز سياسية واقتصادية و مُجازفية ـ إذا صح التعبير ـ وقد روي إلادريسي 1100 ـ 1165 في نزهة المشتاق عن فتية من شباب لشبونة توغلوا في بحر الظلمات ،وحكاية ما جرى لهم في الجزائر البعيدة ومع الشعوب الغربية.
ولكم تصفحنا رحلات ماركوبولو (1145 ـ 1217) وابن بطوطة (1303 ـ 1377)، وابن جبير( [size=16]1154 ـ 1217 )، وابن فضلان (921 م)، فما زادنا ذلك إلا إحساسًا بقيمة هذا اللون الأدبي، [/size]لما فيه من وصف وحكاية، وتشويق وإثارة، فما أحوج صحافتنا المحلية ـ هذه الأيام ـ إلي تحفيز هذا اللون، فتنتشر المقالات مصحوبة بالصور، وبالطبع تكون مشــفوعة بالعبر، نرحل مع الكاتب في رحلــــته عبر أسلـــــوبه الذاتي وإحساسه هو، ولن يكـون الأمر عرضًا لمعلومات نجدها في الدليل السياحي، أو استعراضا مجردًا لا غنى فيه ولا غناء.
سألت نفسي: ولماذا لا تنشر انطباعاتك أنت على الملأ؟
أجبتها: قد يقول لك قائل: ومن يهتم بهذا؟
أو يتهمك متهم بأنك تدلِّّين وتتباهَين ..ورغم ذلك، سأصحبكم معي إلي ساحة جامع الفناء في مراكش وأقدم لكم لقطات سريعة ، لعلها تشي بأهمية التوسع في هذا الموضوع، وضرورة التوقف على كل لقطة مليًا، وسأنتزع هذه المادة من مذكراتي:
ساعات المساء كل يوم تجد آلاف السياح والسكان المحليين في حشد ضخم .. ثَم جماعات تتحلق هنا حول حواة.. وهناك مروض أفاعي الكوبرا...جماعات تتحلق حول طفل مطاطي يقوم بحركات لولبية .. دعاة دين إلي جانب لاعب يلعب الورقات الثلاث، ساحر، قارئة الحظ، شاب يرقص بلباس عروس، حلاق يقلع سن غلام بـ الكلبة، فرق موسيقية شعبية، قرداتي يصر أن يمسك القرد ويتبرك منك أو تتبرك منه، سقاة ماء بلباسهم الخاص، بائع خناجر تقليدية، طرابيش، بائع حلزون مسلوق ،يا له من جو مفعم بالغرابة والسحر والغيبية...
مثل هذه الصور بحاجة إلي استخلاصٍ ما مِن ورائها، ولا أجد أحق من صحافتنا ومن مكاتب السياحة بالاهتمام بهذا اللون وتقديمه بالتشويق والإثارة، وإذا كان الطعام تقاس جودته بطريقة تقديمه وطهيه، فأدب الرحلة في أيامنا فيه ما يشهّي النفس ويمتعها، ولكن كيف؟
**********************