يعاود العويل الذابح للكمنجة ارتعاشته على الإيقاع الكناوي في أذنيّ، فتهتزُّ روحي ويتحرَّك رأسي وحوضي برقصة الديك المذبوح: الآن، بإمكان هذه القرية أن تحّلّق فوق سحاب الحلم وترفلَ في مقامات المجد ونعيمه، بإمكانها أن تغيِّر اسمها إن شاءت وتدخل محراب التاريخ المقدّس..
أعُبُّ الهواء المنعش وأستسلم لدغدغات حباَّت المطر الرقيقة وهي تنقر جسدي كخواطر عشق جارف..
تتقافز القطرات فوق وجهي في مرح طفوليّ كأنها تتماوج فوق أراجيح سحرية..
أحس بانتعاش كبير ورذاذ المطر يداعب جسدي في وداعة ولطف، أحسُّني نشيطا ومنطلقا وغيمة فرح تغمر قلبي: لقد جاءتني الليلة أخيرا ووعدتني بأن تهجره وتأتيني، لذلك خرجت كي أشارك العالم فرحي بعودتها..
تنساب خطواتي في صمت وحبور، تكاد الأشجار التي أمرّ بجانبها تطلق الزغاريد، بل إنها ترقص على الإيقاع الجاذب للموسيقى المجنونة في صدري، أعرف سرّ صمت باقي الكائنات وتكتُّمَها على الوجد الذي يكوي صدورها، لكن الريح الشاطحة تخبرني، فأسمع من آهاتها كلَّ معاني اللوعة الحرَّى والاشتياق الجارف..
مررت بجانب الحاج المختار: حدَّق فيّ مليا، ثم رأيت بريق الدموع في عينيه وهو يتمتم:
- اللّه يخرّجنا من دار العيب بلا عيب.
التفتّ إليه منشرحا وردّدت معه : آآآآآميييييييييييييييين
آنذاك أمسكني من مرفقي وخاطبني بتأثر:
- اِلبس شيئا يسترك يا ولدي، ستموت من البرد
ثم أردف:
- انتظرني هنا.
أتدفَّق حرارة وحيوية، نظرت إليه بإشفاق، ماذا يحاول أن يفعل؟ ألم يدرك أنني محتفلٌ بعودتها؟
أحِسُّني خفيفا ومبتهجا لأقصى حد، “يا لجنونه! لا يعرف المسكين أنها سوف تعود”..
يزداد تنفُّسي انسيابا ويزداد منسوب النشوة في الكيان، ويعاود العويل الذابح للكمنجة ارتعاشته على الإيقاع الكناوي في أذنيّ، فتهتزُّ روحي ويتحرَّك رأسي وحوضي برقصة الديك المذبوح..
أتابع سيري على طول الطريق الضيِّق المؤدِّي للسقَّاية، أحس برغبة موحشة للماء: للشرب أو للعوْم، لست أدري، رأيتهُنَّ يبتعدن عن طريقي مسرعاتٍ ويغْضُضْنَ من أبصارهن، إحداهن لم تنتبه لقدومي وهي تملأ آنيتها، قفزَتْ هلعا وهي تصرخ، حدَّقْتُ فيها: كانت ذميمة الوجه ولا أثر فيها لأنوثة، تساءلتُ:
- “لماذا تصرخ هذه القردة؟”.
اِنحنيْتُ وعبَبْت حتى ارتويت، سمعت إحداهن تزعق:
- إنه يشرب ماء الصابون!
رائحة طيبة تملأ خياشيمي وأنا لا أحب أن أضيِّع وقتي مع هؤلاء النسوة اللواتي لا يعرفْن شيئا عنها..
انطلقتُ بسرعة قذيفة أُولى في اتجاه سكة القطار، كنت أفكر فيها وفي قدومها المنتظر، استنتجت: “لا يعرف معنى الحياة من لا ينتظرها”..
أحسُّني كريشة، بل أخفّ وأجمل، عضلاتي المشدودة بدأتُ أفقد إحساسي بها، أستمرُّ في ركضي بلا عياء، تزداد سرعتي، سوف تأتي في القطار إذن، وهؤلاء المجانين لا يعرفون شيئا عنها، لا يعرفون أنها سوف تعود حتما..
أحسُّني نقطة صغيرة في بحر فرحٍ غامر، الكونُ كلُّه يتحرَّك بحركتي، يتجاوب مع فرحي وانتعاشي، أنا الابن الحقيقي لهذا الكون، أنا هو الكون الحقيقي، أتوحَّد أكثر، تتركَّز المعاني والأفكار والكائنات والعواطف والزمان والمكان وأنا وهي وعشقنا الكبير وكلماتنا وتعبنا…
يعاود العويل الذابح للكمنجة ارتعاشته على الإيقاع الكناوي في أذنيّ، فتهتزُّ روحي ويتحرَّك رأسي وحوضي برقصة الديك المذبوح..
أقف في سكة الحيوان الأسطوري الجميل الذي يحملها كزاحف خرافي، يمخضُني الشوق فيرتَجُّ الكون، سأعانق الريح التي تحمل عطرها إليّ، سأعانق قطار عودتها بكل ذرّة في كوني..
اِنطلقتُ كقذيفة ثانية في اتجاه الزاحف، كانت أعيُنُهُ الثلاثة تلمع وصوته يصرخ بقوّة جبَّارة.. ثم تضاعفت سرعتينا أكثر..
عبد القادر الدحمني