محمد معمري
عدد الرسائل : 27 العمر : 66 Localisation : وجدة // المغرب تاريخ التسجيل : 21/01/2011
| | قراءة في قصة "اختفاء قلب" للكاتب المصطفى سكم | |
بسم الله الرحمان الرحيم
السلام عليكم ورحمة الله تعالى وبركاته
أخي الكريم المصطفى سكم تقبل مني هذه القراءة المتواضعة
اختفاء قلب دق الباب، هرعت أناي من ذاتي كأن انفجارا قذف بها لتكتشف من الطارق. منذ مدة وهي تحيى قبليا هذه اللحظة، ذوات الزقاق الضيق تسأل أناي عن ذاتي؛ غاب الجد، انتزع من عالمنا الممكن. كيف ينزوي في هامش علينا أن نكتشفه في أسفارنا الطويلة القادمة في اتجاه النسيان كلما مررنا من حيث كان يجلس في خلوته يستعيد عبر ذوات الزقاق ذاكرة وطن هو بسعة الحلم..هو الآن يتأمل دواتنا -من هامش ما -يرأف لحسرتنا ،يتألم لدموع ذات الصغير على سطح المنزل،يحرك فينا كل التفاصيل اليومية التي لم نأبه بها يوما ؛هاهي اليوم في عمق تفكيرنا تنزع عنها كل الحجب لتنكشف إشراقا توحدنا بجوهرنا ؛ تصدح بحضوره فينا، في كل ألأمكنة التي مارسنا فيها شغبنا الطفو لي ، في كل ألم ارتكاسي من جراء قسوة أب يتوهم تنشئة صغاره وفق خارطة طريق تتنكر لحكايات الجد المسائية؛ فيها من عوالم الجدة أنين نساء كل الوطن ...لكنه الآن هنا بدون ملامح فيزيقية هو الجد الذي يسكننا، يحدثنا، يفتح باب غرفنا كل مساء، يتحول عصب عالمنا الممكن.
دخل خلسة ألبوم صوري ، يحملني بين ذراعيه، نظراته للعلياء وشفتيه بالآذان تكبر لله في أذني يملأ وجداني بفيض الله وبعشقه. لم يكن يعلم حينها أنه كان يبذر في حب الميتافيزيقا وقلق السؤال وعطش ارتقاء السماوات واقتحام القلوب والحفر عن أصل الأشياء .كنت بخجل أتبع خطواته المتثاقلة وهو يشق أزقة المدينة القديمة في اتجاه زاويته ..هاهي منتصبة في هذه الصورة شاهدة عن ورعه. هي عالمه حيث كان على موعد يومي بممكنه ،كنت اجلس خلسة وراء مريديه، أسمعه دائما يردد أنه عالم يسع كل المدينة الثاوية في قلبه بل وأرض الله الواسعة .كنت أندهش كيف يكذب عليهم وهو يحكي عن سفره المتكرر يروي مشاهداته وما كانت تنطق به له الأشجار والمياه والنبات والحيوان والرياح...كيف تتحدث الأشياء وتبوح له بسرها... وحدها أصوات كورالية في تموجاتها تدخلني في غيبوبة وهي تنشد بأسماء الله وبحبها لحبيب تفتقده وتسعى التماهي معه ؛ كنت عاجزا عن تمثل دواتهم أو أن ألحق بعالمهم أو أكتشف سر حيرتهم...كانت ذاتي منتشية بسماع يصدح في كل أرجاء الزاوية الضيقة تشعرني بفراغ ذاتي تحسسني بأني الجسد المتمدد في حيز ذرة في الكون ..كنت أشعر بهم وهم يتناوبون في إنشادهم الفردي والثنائي والجماعي أنهم يسافرون عبر الزمن للأقاصي؛ وجسدي السقيم الفارغ المملوك للرغبة سجين الحيز، مقشعر يرتجف من صدى الأسماع والأذكار، يزداد خفقان قلبي المهرول خارج صدري، أمسك به يلتفت إلي:
--" اتركني أهيم في عشق اللاتناهي، سأعود إليك ، لا تخف" ...
أقلب ألبوم صوري هي ذي صورتي مع جدي أنتحب بين يديه مذعورا:
- " حفيدك بدون قلب، أريد قلبي، رد لي قلبي، ". تطل علي جدتي من الصورة المقابلة في ألبوم صوري:
- " أتتركه بدون حب إلى أن يموت؟ رأفة بالصغير أرشده لفؤاده ينتشي بخفقاته".
يبتسم جدي فتنطق أخر صوره:
- "بل إلى أن يفنى عن ذاته ويتواصل مع حبيبه.“
خرج فجأة من ألبوم صوري كما دخلها خلسة .ما زلت أشعر بفراغ جسدي كلما أطلت علي شمس من شرفتها ، تخونني نظراتي ، أين قلبي ؟ قلت ربما هي مرآة الحبيب يملآ كينونتي . جاء الرد سريعا : " يا هذا الذي يطأني لاتقسو علي بفيض الوجدان وسحر الوصال وفناء التوحد والانصهار، ما لي وانجذابك لعالم القدس والإشراق والذوبان في المطلق ونزوعك للاتناهي.. ألا ترى أثار القحط في عريي وانكشافي ونضوب ينابيعي فلا تندب زمنا ضائعا ولى وغاب في أعماق النسيان ولا تجهد ذاتك في شق الصخر ونحث الريح وركوب الموج أو السحاب فما عاد فيض عين الجود ببذل المجهود ولا في سياحة الألوان ارتقاء بالأحوال، أفق من غفوتك وذهولك وقل ذاك كان زمانه وزمان اليوم زمان غيرك وإن ارتعشت يدك وانقلب عليك الفنجان، فعذوبة القهوة في ارتشاف سواد عصارتها وإن تعب الفؤاد ودوت آهاته حتى رقت الحيطان." المصطفى سكم *****************************************************
يتناول الكاتب في هذا النص قضية اجتماعية دينية؛ حيث يتطرق لموضوع التصوف من بابه العريض.. ولعل قضية التصوف تعدّ اليوم من أحاديث الساعة لأن كل الدول الإسلامية بدأت تشجع التصوف...
ونجد الكاتب هنا ينطلق من عنون "اختفاء قلب"، مما يجعلنا نتفحص هذا العنوان جيدا فنلاحظ أنه جاء نكرة ليفتح أمامنا عدة تأويلات، منها: هل اختفاء قلب الشيخ؟ أم اختفاء قلب المريدين؟ أم اختفاء قلب بطل القصة؟ أم اختفاء قلب العوام؟ أم اختفاء قلب الكل؛ إنما هناك مفارقات بين كل اختفاء؟
فما يجعلنا نعدد التأويلات هو "النكرة" و "الإضمار"...
ونلاحظ كلمة "اختفاء" وردت على وزن "افتعال"، مما يسوقنا نحو مفهوم سنحدد معالمه من خلال قراءتنا للنص.
نلاحظ الكاتب في الفقرة الأولى كيف تطرق لموضوع البحث عن "الأنا" الذي ربطه بالسببية؛ ثم نلاجظ جيدا كيف وظف المصطلحات ببراعة وذكاء وحنكة.. {دق الباب / هرعت أناي من ذاتي / انفجار / لتكتشف / الطارق / الزقاق الضيق / تسأل أناي عن ذاتي / غاب الجد / انتزع من عالمنا الممكن...}، فدق الباب هو اللحظة السببية التي يحصل فيها الانفجار لاكتشاف الطارق الذي هو فطرة الإنسان عندما تستيقظ وتتيقظ.. والزقاق الضيق هو هوى النفس في الحياة الدنيا؛ أي عندما يكون الإنسان في ضيق وتتحرك فطرته لتلهمه بالبحث عن نفسه.. غياب الجد؛ نلاحظ كلمة "الجد" وظفها الكاتب توظيفا جد مكثفا، حيث يقصد بها في آن واحد غياب "الجدية"، غياب "أبو الأب"، غياب "السلف الصالح"...
ونلاحظ في كيف استطاع الكاتب أن يصور لنا المفارقات بين أب يريد التمدن والحضارة والعصرنة، وجد يريد ما كان عليه السلف الصالح، وأنين الجدة التي تحتار بينهما...
أما في الفقرة الثانية فيغوص بنا الكاتب قي بحر حنان الجد ووجدانه وفنائه.. كما يصف لنا كيف كان يتتبع خطواته ويتصنت عليه وهو في زاويته يحدث مريديه حتى أثر عليه فأصبح في ذاكرته معلقا كما تعلق الصور في الألبوم...
لكن في الفقرة الثالثة نلاحظ الكاتب أنه قد مسح كل شيء من ذاكرته وخرج ليتحرر لكنه سرعان ما شعر بفراغ في جسده.. إلا أن الفراغ قد امتلأ بإلهام أبان له نعم الله الظاهرة والخفية التي تحركها قدرته العظيمة...
* التناص نجد هنا التناص واقع اجتماعي ديني عقائدي طقوسي.. يصب في مجال التصوف.. والتصوف مسألة بين منكرين عليه، ومن اتهمهم بالشرك والزندقة، وبين من أنصفه حق الانصاف.. ورغم كل الأفكار المتعارضة فالتصوف بات حديث الساعة...
* الطابع الديداكتيكي نلاحظ أن الكاتب تناول أسلوبا سهلا من أجل بلوغ الهدف الوجداني.. كما نستنبط النزعةى النفسية التي اكتسبها الكاتب في طفولته مع جده الذي كان شيخا لزاوية أحد الطرق الصوفية...
* التكثيف ينطلق الكاتب من العنوان، إلى كلمة واحدة، إلى جمل ومعاني في تكثيف متنوع وبدقة...
- التكثيف البنائي: نلاحظ أن الكاتب عمل في النص على الحذف، والاختزال، والإيجاز، والإضمار، كما أم الترقيم لعب دورا هاما في السرد...
- التكثيف الدلالي: نلاحظ الكاتب أن قد عمل على الإيهام، والرمزية، والسخرية.. في قالب يخفي المسكوت عنه بشكل واضح...
- التكثيف السيكولوجي نلاحظ هنا الكاتب عمل على تفكيك شخصه إلى: "الأنا" و "الذات"؛ وجعلهما يتحاوران...
- التكثيف البنيوي نلاحظ أن الكاتب تطرق إلى قضية التصوف منطلقا من الذات ليصور الوافع الصوفي الذي أدار الكثير ظهره له، أو تنكر له... فجعلنا نفهم أن هناك شيئا يخفى علينا وجب علينا البحث في أعماقه وتتبع آثاره والإصغاء إليه لأنه ذوق وممارسة ليس علما يُكتب ويُفهم...
* الترقيم لقد استعمل الكاتب في النص الفاصلة، والقاطعة، والنقطة، والثلات نقط، والنقطتان العموديتان، والشرطة للجملة المعتضرة ولفصل المتحاورين، وعلامة الاستفهام، والمزدوجتان العلويتان؛ مما أعطى للسرد نكهة خاصة...
* البنية لعل الكاتب كان بارعا في التكثيف، والإضمار، والرمزية، والإيجاز، والترقيم، والاخنزال.. مما جعله ينسج حبكة النص بسرد له بصة خاصة بالكاتب...
* المقاربة حاول الكاتب تقريب معنى التصوف بين مأيديه وأصحابه، والمتنكرين عليه، أو الذين لا يعرفون عنه شيئا... في سرد حدد مفهوم ما بعد البنيوية للمعنى والتأويل.. وكان دليله القاطع هو أن السارد بطل القصة...
* المفارقة نجد الكاتب قد تناول عدة مفارقات بين تلك التناقضات الظاهرية بين جده وأبيه وجدته؛ وإضمار تنكرات الكثير من المجتمع الاسلامي على التصوف... وكانت المفارقة في النهاية رائعة حيث أن بطل القصة عندما حاول أن يبتعد عن جده الذي يرمز إلى السلف الصالح.. حصلت له لحظة الإشراق فتحركت فطرته وتجلى له القلب الذي كان يختفي عليه...
* الشخصيات لقد اعتمد الكاتب على الشخصية الرئيسية التي فسمها إلى قسمين: "الأنا" و"الذات"؛ فيجعلها تتعارض وتبحث وتتفاعل إلى أن صارت شخصية سوية لأنه استطاع أن يخاق في النهاية توازنا مع نفسه، أي بين تلك "الأنا" والذات"، أو بالأحرى بين "المادة" و"الروح".. وشخصيات ثانية جعلها تتعارض مع شخصيته حيث الأب شخصية مضطربة، والجدة شخصية مترددة، والجد شخصية زاهدة...
* الرمزية لقد استعمل الكاتب رمزية ساهمت في تكثيف النص ببراعة.. وقد تنوعت الرمزية ما بين المصطلحات الأدبية، والصوفية، والفلسفية...
* الوصف نلاحظ أن الكاتب قد استعمل الوصف المكثف مما زاد للنص رونقا وجمالا...
* الخيال لقد برع الكاتب في تصوير رسالة وفكرة في تصوير سيرة ذاتية في قالب قصصي اشتمل على أغلب ممزيات وأركان القصة القصيرة...
قراءة للنص من زاوية أخرى يريد الكاتب أن يوصل رسالته إلى المتلقي حيث يحاول أن يقربه من مفهوم التصوف، فيغرس في ذاكرته، أو يمنحه صورة ليعلقها في ألبومه من أجل البحث عن التصوف؛ لأن البحث عن التصوف هو البحث عن "الأنا"، أي النفس، ومن عرف نفسه فقد غرف ربه؛ كما ورد في الحديث الشريف.. هذا البحث عن "الأنا" عندما يُعرفك بنفسك تنتقل إلى مرحلة الإشراق أين تتعرف على نعم الله؛ حيث كل نعمة رأيتها ترى فيها الله، أي تفهم القوة والعظمة والإرادة... التي تحرك تلك النعمة فيلج قلبك الاطمئنان واليقين... كما يوصل لنا الكاتب أن طريق التصوف ليس علكا يؤخذ من الأوراق بل هو ذوق وممارسة... ودليل صدقه هو تجربته التي حولته من جسد فارغ؛ إلى جسد في قلب كان يختفي عليه فأصبح نابضا؛ كان يسوده الظلام فلأصبح مشرقا...
قصة رائعة مبنى ومعنى؛ دمت مبدعا متألقا..
بقلم: محمد معمري
| |
|
الإثنين يناير 31, 2011 9:08 pm من طرف ربيع عامر الغيواني