قراءة في " حنين " ق ق ج
فجر عبد الله
حنين .. حرارة الشوق وتوقان النفس .. حنين عنوان افتتح به الأديب عبد الرحيم التدلاوي قصته الرائعة ليكون دليلا في صالح ذاك الحانّ .. ذلك الذي حنّ ويحنّ إلى الوطن
ونرى كلمات أعتبرها كما خرز صنع منها عقد الحنين للوطن ..
هي : فاض ، الوطن ، قبضة التراب ، الشمّ بقوة ، الارتواء ، حديقة غناء
أول كلمة تعانقها العيون حين ذات قراءة لهذه القصة هي كلمة " ولما " ولما كما هو معروف كلمة ظرف زمان تدخل على فعل ماض وتعني حين .. وما بين حين وحنين يسرد علينا المبدع عبد الرحيم أحداثا تتوالى بتقنية التحنان الذي استطاع أن يوقظه في المتلقي عند آخر كلمة من هذه القصة
" ولما فاض صدره حنينا " وحين فاض .. وفاض هنا عميقة الدلالة إذ هي من فاض يفيض الماء وهو فيضان .. فاضت أضلع بطل القصة .. فاض صدره حنينا .. كثرة الحنين وشدته وبعد أن فاض الصدر بالحنين أخرج قبضة من تراب .. ترى هل في غربته – بما أنه يحنّ للوطن – هل في غربته ثمة مكان فيه تراب الوطن ..؟ ومن أين جاء بالتراب وهو في أرض الغربة .. ؟
يحيلنا السؤال إلى جواب – ربما – كان هو الوسيلة لتكون قبضة التراب بين يديّ بطل القصة في غربته .. أتراه جلب معه حفنة من تراب وطنه للغربة ..؟ لكن لمَ وما هي الأسباب التي جعلته يفعل ذلك ..؟ إذا عرفنا أن موجة الهجرة عن الوطن الأم اجتاحت كل البلاد والأقطار عبر الزمن ولم يكن هناك أحدا يحمل معه قبضة من تراب الوطن معه في غربته .. اللهم إلا حالات نادرة – ربما – وقعت – والله أعلم – وربما كان هناك مثل هذا الفعل في حالة واحدة .. وهي أن ذاك الذي في غربة عن وطنه هو منفيّ لا سبيل للرجوع إلى وطنه .. كان في سابق علمه أن لا عودة للوطن وأرى أن هذا هو السبب في حالة بطل القصة هذه . إنه منفيّ عن الوطن ولهذا حمل معه إلى منفاه حفنة من تراب بلده يكون تذكارا وحضنا آمنا يتوسّده في الغربة وضياع هوية المواطنة حتى لو كانت عنده جنسية البلد المقيم فيه .. فالوطن كما الأم لا يمكن أن تتبدل أو تستنسخ .. كل مواطن مشفّر على جينات وطنه ..
وهنا نرى ذكاء الكاتب في استعمال كلمة قبضة تراب .. فهو لم يجعل البطل في موقف يرى على جدار غرفته صورة معلمة من معالم بلده ليتذكره أو شاهد لقطة تلفزيونية عن وطنه ( مثلا ) بل أخرج وفعل أخرج هنا يفيد الإخراج بعد ما كان الشيء مخبئ .. قد خبأ تراب وطنه عن معرفة بعدم العودة وعن رغبة شديدة في الحفاظ على جزء من وطنه وما الوطن إلا تراب ينبت فيه المواطن .. التراب هنا رمزية رائعة ففيه تنبت المزروعات وهو أصل الحياة والنماء كيف لا .. والإنسان خلق من تراب وإليه سيعود والتراب هنا الأصل والرحم الذي تنمو فيه أجنة المواطنة والمواطن والوطن معا .. ترى هل مصير هذا المنفي هو العودة للوطن كما عودة الإنسان إلى التراب .. منه خلق وإليه يعود .. مصير حتمى لابد من وقوعه .. !
وكان الفعل الثاني الذي أقدم عليه بطل القصة هو الشم .. ليس أي شمّ بل كان الشم بقوة والقوة هنا تعني الإصرار على الشمّ حد الاحتواء وحد الرغبة في التمازج والانصهار .. انصهار بحرارة الشوق وما كلمة " حتى ارتوى " إلا وصف رائع من الكاتب هنا لحالة العطش الروحي والفكري الذي يعاني منها بطل القصة .. ارتواء بعد الظمأ .. ظمأ عانى منه ويعاني منه بطل القصة .. وهاهو قد خطط ليكون هناك منبع ( قبضة التراب ) يرتشف منه عبر رئتيه ( حاسة الشم ) أكسجين وطنه .. به يحيا وبه يعيش فلا حياة بدون أكسجين وبدون ماء .. وهنا براعة الكاتب في استعمال كلمة " الشم" والارتواء " وها هو يرتوي بشم تراب بلده .. تراب الوطن هو ظلال ومطر وماء يروي ذاك الظمأ المتجذر فيه .. ولهذا نجد كلمة التراب هنا قوية جدا في استعمالها .. فجذور العطش عند بطل القصة لا يرويها إلا قبضة من تراب وطنه .. وبعد هذا الارتواء هاهو يتحول قلبه إلى حديقة غناء ..
لم يقل الكاتب جنة غناء - بعد ذلك الارتواء الذي فاض به ومنه كما فاض الحنين في أول مرحلة من مراحل الاشتياق - بل قال : " حديقة غناء " ولو قال جنة لكن هناك تناقض في المضمون وتناقض مع الحالة التي فيها البطل .. – بطل القصة – إذ لا جنة حتى لو ارتوى وهو بعيد عن الوطن .. ولو شمّ ترابه يبقى هناك نقص .. القبضة ليست كل التراب وليست كل الوطن .. ولهذا كلمة حديقة تفي بالغرض هنا .. إذ هي حديقة صغيرة كما الحدائق المحيطة بالبيت يزرعها صاحب البيت أوقات الفراغ .. وهنا نرى أن البطل اكتفى بجزء من الارتواء ليشعر بالطمأنينة .. اكتفى بالحديقة في غياب الجنة .. اكتفى بالجزء عن الكلّ وهذا في حد ذاته انتصارا له وفرحا يروي ظمأ حزنه في بعده عن وطنه ..
عاد قلبه الكبير العاشق للوطن إلى حديقة غناء ذات ظلال وارفة تقيه حرّ البعد والغربة ..
وقداستطاع الأديب عبد الرحيم أن يرسم لوحة سريالية رائعة من العشق للوطن
الجمعة أغسطس 12, 2011 1:05 am من طرف حميد يوسفي