العقوبـة السالبـة للحريــة
بين الشريعة والقانون
الدكتورة صباح بلحيمر
عالجت المدارس القانونية الوضعية على اختلاف أنواعها واختصاصها موضوع العقوبة من منطلق اجتهادات شخصية، خلافا للتشريع الإسلامي الذي عالجه من منطلق الأصول و المصادر الأساسية والمعرفية على نحو يحقق الثبات والاستقرار، ويتماشى مع التطور والتغيير لما فيه من مرونة واتساع واستقامة في النهج والطرح، ولهذا قسم العقوبة إلى قسمين:
- قسم الثوابت: لا يتغير بتغير الزمان والمكان والأشخاص، ونظرت فيه إلى الجرم دون المجرم لأنه مساس بكيان المجتمع، والتشدد فيه كفيل بالتقليل منه للتنعم بحياة أفضل ،وهو الحدود والقصاص.
وجرائم الحدود سبعة وهي: السرقة والزنا والشرب والقذف والحرابة والبغي والردة.
أما جرائم القصاص والدية فهي: القتل العمد والقتل شبه العمد، والقتل الخطأ، والجناية على ما دون النفس.
- وقسم المتغيرات: يتغير بتغير الظروف الخاصة بالجاني والجناية والمسببات والنتائج وهي التعزيرات.
والتعزير هو تأديب على ذنوب لم تشرع فيها الحدود (1) والشريعة لم تحدد لهذا القسم عقوبة معينة، بل قررت مجموعة عقوبات للقاضي أن يختار منها ما يلائم ظروف المجرم والجريمة وما تقتضيه المصلحة العامة ومبادئ الشريعة ومن بين العقوبات الحبس، وهي عقوبة مشروعة انطلاقا من قوله تعالى في آية الحرابة : "إنما جزاء الذين يحاربون الله ورسوله ويسعون في الأرض فسادا أن يقتلوا أو يصلبوا أوتقطع أيديهم وأرجلهم من خلاف أو ينفوا من الأرض ذلك لهم خزي في الدنيا ولهم في الآخرة عذاب عظيم"(2).
- وجه الاستدلال :
- قوله سبحانه: "أوينفوا من الأرض" والنفي هنا بمعنى الحبس (3) ومنه
قول الشاعر:
خرجنا عن الدنيا وعن وصل أهلها
فلسنا من الموتى ولسنا من الأحياء
إذا جاءنا السجان يوما لحاجة
عجبنا وقلنا جاء هذا من الدنيا(4)
- ومن السنة ما رواه أبو داود في سننه عن بهز بن حكيم عن أبيه عن جده أن رسول الله صلى الله عليه وسلم حبس رجلا في تهمة (5).
وغايتها التأديب والزجر والردع، وهو ما أكد عليه فقهاؤنا في كتبهم مثال:
- الآبي الفقيه المالكي (تـ.1340هـ) الذي ذهب إلى أن السجن من التعزير، ويقصد به التأديب والعقوبة (6).
- الفقيه الحنفي الكاساني (تـ 587 هـ) الذي قال بأن الحبس من التعزير، ويراد منه الزجر والتأديب والتوبة (7).
- والفقيه الشافعي أبو عبد الله الزبيري القاضي (تـ 317) الذي ذكر بأن السجن القصير للاستبراء، وغير القصير للتأديب والتقويم (
.
وهي كلها معان تؤكد على إصلاح السجين وزجره.
إن العقوبة الحبسية في الشريعة الإسلامية اضطرارية واحتياطية، يحكم بها القاضي ويقدرها حسب حال المجرم وسيرته، ولا يلجأ إليها إلا إذا تيقن من ارتداع الجاني بها، خلافا للقوانين الوضعية التي اعتبرتها غالبا العقوبة الوحيدة لمواجهة الجرائم المختلفة، ولكفالة ما تتضمنه القوانين من واجبات وأحكام في مختلف النشاط التشريعي، لدرجة أصبح معها هذا الجزاء الجنائي أسلوبا لا يكاد يخلو منه أي تشريع على اعتباره قادرا على توفير أقصى درجات الحماية للقيم والمصالح الاجتماعية، وقادرا على حمل الأفراد على الالتزام بالسلوكيات القويمة، فوجدت نفسها أمام مشاكل عدة أذكر منها:
- التوسع في استخدام العقوبة بالحبس، بات يهدد الحقوق والحريات الفردية، وأصبح يشكل اعتداءا صريحا عليها.
- اتساع نطاق التجريم، ليشمل أفعالا ليست بتلك الخطورة والتهديد الذي يهدد أمن المجتمع.
- جعل هذه العقوبة موزعة بين نصوص وقوانين متعددة، يتعذر معها الإحاطة والإلمام حتى بالنسبة للمختصين في المجال.
- جعل المحاكم ترزح تحت وطأة كم هائل من القضايا التي تتجاوز بكثير إمكانيات هذه الأجهزة، مما أدى إلى التأخر في حسم القضايا، وحال دون تحقيق الإصلاح المنشود.
- ظهور نتائج سلبية للسجون تمثلت في:
أ – احترافية المسجونين في مجال الجريمة: من خلال اندماجهم فيما بينهم، وتلقين بعضهم البعض أصول الإجرام ونقل الخبرات إليهم، فتتطور نظمهم السابقة.
ب – إثقال كاهل خزينة الدولة.
ت– تعطيل الإنتاج.
ث – ترسيخ اللامبالاة والاتكالية في نفوس المسجونين، فدخول السجين إلى سجن ينعم فيه بطعام وشراب ومبيت دون عناء وجهد، يقتل فيه روح العمل والكد.
ج- ازدياد هيبة المجرمين ونفوذهم: إذ أن المجرم الخطير بعد الإفراج عنه يستغل قسوة العقوبة في تبوء مركز هام وسط أفراد المجتمع، من حيث خوف الناس منه وإرضاؤه اتقاء لشره، وابتزازه لأموالهم لشعوره بعدم المبالاة بأي عقاب، ولتيقن الناس بأنه لم يعد يهتم بأي جرم يرتكبه.
ح-تدني المستوى الصحي للسجون والسجناء: إذ تعاني السجون من :
الاكتظاظ الذي يقتضي جمع السجناء في غرف تجمع أصحاء وآخرين مرضى بأمراض معدية كالأمراض الجلدية والصدرية، فتنتشر العدوى فيما بينهم.
خ-تدني المستوى الأخلاقي للسجناء: من حيث تعلم الكلمات النابية التي تتكرر على أسماع السجين يوميا، والعادة السرية، والشذوذ الجنسي، وتعلم السرقة...
د-انعدام قوة الردع بعقوبة السجن: فالعقوبة السجنية شرعت لردع السجين عن معاودة الجرم، ومن جهة أخرى لزجر كل من تسول له نفسه الإقدام عليه، وهذا ما لا نلمسه بدليل أن بعض الذين يغادرون السجن يعودون إليه،وربما في زمن قصير جدا.
ذ- ضياع أسر المسجونين وتشريدها.
وهذه العيوب لا تعني الاستغناء عن العقوبة الحبسية، بل هي مناسبة لإعادة النظر في وظيفتها وأهدافها، وبالتالي إعادة النظر في السياسة الجنائية الوطنية والدولية، بحيث تستبدلها بعقوبات أخرى مثل عقوبات جرائم الحدود والقصاص والعقوبات التعزيزية الأخرى مثل:
عقوبة القتل: أقرتها الشريعة الإسلامية، إذا وافقت المصلحة العامة واجتثت عنصر الفساد من المجتمع، كقتل الجاسوس والمجرم الخطير معتاد الإجرام (9).
- التغريب: وهو النفي من مكان إلى مكان، إذا حصل ضرر بوجود الجاني وهو يوضع قيد المراقبة وتقيد حريته، ولا يعود إلى موطنه الأصلي إلا بعد انتهاء مدة عقوبته (10).
- الهجر: إذا كان مناسبا لردع الجاني وزجره، مثل أمر الرسول عليه السلام بهجر الثلاثة الذين تخلفوا في غزوة تبوك، لمدة خمسين يوما.
- عقوبة العزل من الوظيفة: وتقع على الموظفين العموميين، ومصدرها أقوال الفقهاء ومنهم ابن تيمية في قوله: " فلو عزرالشارب مع الأربعين يقطع خبره، أو عزله عن ولايته كان حسنا، وأن عمر بن الخطاب رضي الله عنه بلغه عن بعض نوابه يتمثل بأبيات في الخمر فعزله" (11).
- الإزالة: مثل إزالة أواني الخمر أو آلات لعب القمار...
- عقوبة الجلد: التي أقر تها مجموعة دول منها :
انجلترا التي تعترف بها في قوانينها الجنائية والعسكرية.
وأمريكا في بعض جرائم المسجونين، وهو اعتراف بأن عقوبة الجلد التي هي إحدى العقوبات الإسلامية، كافية في ردع المجرمين عوض عقوبة السجن التي أثبتت فشلها باعتراف باحثين أمثال:(12)
الدانماركي"فلامنغ بالفينغ"
والنرويجي"توماس ماتييسن"
والفلندي" رايمو لاهتي"
والباحثان السويديان:"انغاليل ليندبرغ" و"لييف جوهانسون"
إذ كتبوا أبحاثا تشير بوضوح إلى فشل المؤسسات السجينة في الدول الاسكندنافية -رغم تطورها الملحوظ- في:
الحد من الجريمة.
تأهيل المجرم
الحد من العود إلى الجريمة.
الإدماج الاجتماعي.
ولا أفضل من العقوبات الشرعية التي شرعها الإسلام الخبير بأمراض المجتمع وعلله وشفائه وخفايا نفوس أفراده، فجاءت تشريعاته في قواعد وأصول على درجة من الحكمة يرتكز عليها نقاء المجتمع وبناؤه وأسس تقدمه، ومتوافقة مع حاجة النفوس البشرية.
الهوامش
1. الأحكام السلطانية للماوردي. ص 236.
2. الآية 33 من سورة المائدة.
3. تفسير القرطبي (6/152).
4. مروج الذهب للمسعودي (3/383).
5. أخرجه أبو داود في كتاب الأقضية، باب في الحبس في الدين وغيره(ح 3629)، سنن الترمذي، كتاب الديات باب ما جاء في الحبس في التهمة(ح 1417)، سنن النسائي المجتبي) كتاب قطع السارق، باب امتحان السارق الضرب والحبس (ح 4876).
6-جواهر الإكليل. شرح مختصر خليل 2/296.
7 - بدائع الصنائع للكاساني 7/63.
8-أحكام الماوردي ص 236.
9-السياسة الشرعية. ص 144
10-الأحكام السلطانية لأبي يعلى. ص 279.
11-السياسة الشرعية. (ص هـ 90).
12-الجريمة والعقوبة والمؤسسات الإصلاحية لحسن طالب(ص 230-231)
فهرس المصادروالمراجع
- القرآن الكريم.
- الأحكام السلطانية والولايات الدينية لأبي الحسن على بن محمد بن حبيب البصري البغدادي الماوردي (تـ 450هـ) الطبعة الثالثة 1393هـ/1973م، شركة مكتبة ومطبعة مصطفى البابي الحلبي وأولاده بمصر.
- الأحكام السلطانية: للقاضي أبي يعلى محمد بن الحسين الفراء الحنبلي (تـ 458 هـ) حققه وعلق عليه المرحوم محمد حامد الفقي، دار الكتب العلمية، ببيروت لبنان 1403 هـ 1983م.
- بدائع الصنائع في ترتيب الشرائع: للإمام علاء الدين أبي بكر بن مسعود الكاساني الحنفي (تـ 587 هـ) الطبعة الثانية 1982 هـ، دار الكتاب العربي بيروت.لبنان.
- تفسير القرطبي لأبي عبد الله محمد بن أحمد بن أبي بكر القرطبي (تـ 671هـ) تحقيق أحمد عبد العليم البردوني، الطبعة الثانية، دار الشعب بالقاهرة.
- جواهر الإكليل.شرح مختصر خليل للآبي، توفي حوالي سنة 1340هـ مصورة دار المعرفة، بيروت عن طبعة مصطفى البابي الحلبي بمصر 1336هـ. 1947م.
- الجريمة والعقوبة والمؤسسات الإصلاحية للدكتور حسن طالب. دار الطليعة. بيروت. الطبعة الأولى 1423هـ ماي 2002م.
- سنن أبي داود سليمان بن الأشعت السجستاني الأزدي (تـ 275هـ).تحقيق: محمد محي الدين عبد الحميد. دار الفكر.
- سنن الترمذي محمد بن عيسى، أبو عيسى السلمي (تـ.279هـ)، تحقيق: أحمد محمد شاكر وآخرون،دار إحياء التراث العربي. بيروت.
- سنن النسائي (المجتبى): لأحمد بن شعيب أبو عبد الرحمن (تـ 303هـ). تحقيق: عبد الفتاح أبو غدة، الطبعة الثانية، مكتب المطبوعات الإسلامية. حلب 1406هـ.1986م.
- السياسة الشرعية في إصلاح الراعي والرعية لابن تيمية (تـ 728هـ).دار المعرفة.
- مروج الذهب ومعادن الجوهر للمسعودي. دار الأندلس.بيروت.