حقوق السجين في الشريعة الإسلامية
الحلقة الرابعة:حقه في الرعاية الصحية
الدكتورة:صباح بلحيمر
إن الاهتمام بصحة السجين،يؤدي إلى محافظته على صحة جيدة تساهم في نجاح الغايات من العقوبة السجنية ،وتجنب المجتمع الأمراض والأوبئة.
وتشمل الرعاية الصحية جانبين :الوقائي والعلاجي .
أ- الجانب الوقائي:
وأقصد بالجانب الوقائي ضرورة توفر السجن على جميع الشروط الصحية من حيث:
-التهوية
-المساحة المناسبة
-الإضاءة
-التغذية المناسبة
-الملابس المناسبة لأحوال الطقس
-نظافة الأمكنة والأفرشة
-المرافق الصحية الكافية والملائمة...
وإذا كانت الدعوات الإصلاحية في شخص المفكرين والمنظمات الحقوقية الدولية، قد دعت إلى الموضوع ،فإن شريعتنا السمحة كعادتها سبقت إليه وإلى القارئ الأدلة والتفاصيل.
*تغذية السجين:
-ثبت أن الرسول عليه السلام أسر يهود بني قريظة وكان الجو حارا فأوصى بهم قائلا:"لا تجمعوا عليهم حر هذا اليوم وحر السلاح،واسقوهم وقيلوهم"1،وأمر لهم بالتمر ليأكلوه 2.
-أسر الرسول عليه السلام رجلا يقال له أبو عزيز، فكان الصحابة رضوان الله عليهم يقدمون له الطعام والشراب، حتى استحيا من كثرة ما قدموا له.3
واقتدى به السلف الصالح رحمهم الله مثل:
*سيدنا علي بن أبي طالب رضي الله عنه الذي أجرى الطعام والشراب على السجناء،وحتى على طاعنه ابن ملجم الذي أوصى به قائلا:"أطعموه واسقوه وأحسنوا إساره،فإن عشت فأنا ولي دمي".4
*كان الخليفة هارون الرشيد يحرص على تغذية خصومه السياسين من العلويين،وكان يحرص على تغذية يحي البرمكي وولده الفضل،مع توفير الماء لهما للشرب والوضوء.5
*أوصى عمر بن عبد العزيز عماله بأن يهتموا بما يصلح السجين، ومنه طعامه.
رغم بعض التصرفات الشاذة في عهد من تولى خلافة المسلمين، وهي تصرفات تصدى لها الفقهاء بالمنع والمحاربة، إذ ذكروا بأن من حبس رجلا ومنعه الطعام والشراب والعلاج ومات من جراء ذلك، فإنه قاتل يقتص منه.
*كسوة السجين:
اهتم المسلمون بها ودليله:
-أن العباس رضي الله عنه أسر يوم بدر،ولم يكن عليه ثوب فكساه الرسول عليه السلام قميصا،وهو ما عنونه البخاري بعنوان:"باب الكسوة للأسارى".
-أوصى عليه السلام بالإحسان إلى المرأة التي زنت وسيقام عليها حد الرجم، ومن أوجه الإحسان الغذاء والكسوة...
-خصص علي بن أبي طالب كسوتين للسجناء:واحدة للشتاء وأخرى للصيف.6
-اقترح أبو يوسف القاضي على هارون الرشيد،بأن يخصص كسوتين للسجناء ،الثقيلة للشتاء والخفيفة للصيف.7
ويمكن للسجين أن يلبس ملابسه من خارج السن،بشرط عدم الإسراف والمباهاة ،وهو ما أفتى به الفقهاء في قولهم:"ليس للقاضي أن يضيق على السجين في ملبوسه،إذا بذله من ماله ،لكن يمنعه من الإسراف بالثياب لأن السجن ليس مكانا للترفه".8
فراش السجين:
وقد وصفه الفقهاء في قولهم: ينبغي أن لا يكون لينا طريا، حتى لا يفقد السجن غايته في التأديب والردع.9
نظافة السجين:
الإسلام دين النظافة ،ودليله النصوص الشرعية الكثيرة ومنها:
قوله سبحانه وتعالى:"إن الله يحب التوابين ويحب المتطهرين"10،وحث الرسول عليه السلام
على الاغتسال والوضوء، والاستنجاء...
لذلك دعا الفقهاء إلى الاهتمام بنظافة السجناء، تطبيقا لتعاليم شريعتنا وحماية للمسجونين من الأوبئة والأمراض، ومن هؤلاء:
-الإمام محمد بن الحسن، الذي أكد على وجوب تمكين السجين من إزالة شعره.11
وقال ابن هبيرة الوزير:"لا أعرف أنه يجوز عند أحد من المسلمين،جمع الكثير في حبس يضيق عليهم،غير متمكنين من الوضوء والصلاة".12
ب- الجانب العلاجي:
لا يعفي المرض السجين من إتمام المدة السجنية المحكوم عليه بها،لكن مع وجوب توفير العلاج له،بل وتخصيص مكان في السجن للمرضى المسجونين،وهو ما أشار إليه الفقهاء في قولهم:لا يخرج المحبوس للمعالجة لإمكان ذلك في السجن.
وقد تجسد اهتمام المسلمين بالمرض المحبوسين في نماذج أذكر منها:
-ما فعله الرسول عليه السلام مع ثمامة بن أثال،وقد كان مريضا،فأوصى به الصحابة رضوان الله عليهم.
-عنايته عليه الصلاة والسلام بالمرأة الحامل من الزنى.
-تفقد علي بن أبي طالب رضي الله عنه،للسجناء بالكوفة والعناية بأحوالهم من أكل وشرب...وعلاج.
-وصية الخليفة عمر بن عبد العزيز إلى عماله قائلا:"انظروا من في السجون،وتعهدوا المرضى."13
-تخصيص الخليفة العباسي المعتضد ،لألف وخمسمائة دينار شهرية ،لنفقات المسجونين ومنها الأدوية والعلاج.
-تعيين الخليفة العباسي المقتدر، للطبيب سنان بن ثابت للإشراف على علاج عدوه اللذوذ "ابن مقلة الوزير".14
-كتب وزيره علي بن عيسى الجراح إلى مدير مستشفيات العراق في عهده،قائلا:"فكرت مد الله في عمرك في أمر من في الحبوس،وأنه لا يخلو مع كثرة عددهم وجفاء أماكنهم،أن تنالهم الأمراض،وهم معوقون عن التصرف في منافعهم ولقاء من يشاورونه من الأطباء فيما يعرض لهم،فينبغي أن يفرد لهم أطباء يدخلون إليهم كل يوم،وتحمل لهم الأدوية والأشربة،ويطوفون على سائر الحبوس ويعالجون فيها المرضى، ويزيحون عللهم فيما يصفون لهم..."15
في الوقت الذي كان السجين في الغرب-في عصر النهضة- يعيش أسوأ الظروف في سجون عبارة عن مقابر جماعية،تفتقد إلى أدنى أسباب العيش،ونموذجه سجن الباستيل الذي وصف من طرف سجين وهو المسيو "بالسيري" الذي قال في مذكراته:"لم أستنشق الهواء النقي خلال سبع سنوات قضيتها في الباستيل،وكنت أعطى في الشتاء حطبا مشبعا بماء لأستدفئ به،وكان يقدم إلي الماء الأسن والطعام الذي تعافه الكلاب الجائعة،فكثرت الدمامل في جسمي وقيحت ساقاي،وصرت أبصق الدم".16
الهوامش
1-بدائع الصنائع للكاساني 7/120
2-شرح المواهب اللدنية للزر قاني 2/136.
3-سيرة ابن هشام 3/195
4- المغني لابن قدامة 8/106
5-الوزراء والكتاب للجهشياري ص246
6- الخراج لأبي يوسف القاضي ص 152.
7-المصدر السابق
8- الفتاوى الهندية منقولة عن جماعة من فقهاء الحنفية بالهند 5/63.
9-المبسوط للسرخس 20/90.
10-سورة البقرة الآية 222.
11-الفتاوى الهندية 3/418
12-الإفصاح عن معاني الصحاح لابن هبيرة 1/39
13-طبقات ابن سعد 5/356.
14-البداية والنهاية لابن كثير 11/218.
15-عيون الأنباء في طبقات الأطباء لابن أبي أصيبعة ص 301-302.
16-دائرة المعارف لحومد 2/23-25