حقوق السجين في الشريعة الإسلامية
الحلقة الثالثة:عدم تعريضه للضرب
الدكتورة:صباح بلحيمر
ضرب المتهم:تأرجحت أقوال الفقهاء في هذا الموضوع بين الرافض،والمؤيد بشروط.
القول الأول :
ذهب الإمام مالك إلى عدم جوازه،ودليله ما ورد في المدونة عنه:"قلت:أرأيت إذا أقر بشئ من الحدود بعد التهديد أو القيد أو الوعيد أو الضرب أو السجن،أيقام عليه الحد أم لا في قول مالك؟قال مالك:من أقر بعد التهديد أو قبله،فالوعيد والقيد والتهديد والسجن والضرب تهديد عندي كله،وأرى أن يقال،قلت:والوعيد والتهديد عند مالك بمنزلة السجن والضرب؟قال:قد أخبرتك بقوله في التهديد،فما سألت عنه عندي مثله،قلت:أرأيت إن أقر بعد القيد والضرب ثم ثبت إقراره،أيقيم عليه مالك الحد،وإنما كان أصل إقراره غير جائز عليه؟قال: لم أسمع من مالك في هذا إلا ما أخبرتك أنه قال:يقال،وأنا أرى أنه ما كان من إقراره بعد أمن من عقوبة يعرف ذلك،فأرى أن يقام عليه الحد أو يخبر بأمر يعرف به وجه صدق مما أقر به وعين،وإلا لم أر أن يقطع لأن الذي كان من إقراره أول مرة قد انقطع،وهذا كأنه إقرار حادث بل هو إقرار حادث."1
وذهب الحنابلة والشافعية والأحناف إلى أن المتهم إذا أقر بشئ مجهول ،طولب بتفسيره،فإن رفض حبس حتى يفسر،لئلا يضيع حق المقر له،ودليلهم:
-أن النبي عليه السلام لم يثبت عنه أنه عاقب متهما أو عذبه،ومنه ما رواه الترمذي أنه جاء رجل من حضرموت،ورجل من كندة إلى النبي عليه السلام فقال الحضرمي:يا رسول الله إن هذا غلبني على أرض لي،فقال الكندي:هي أرضي وفي يدي،ليس له فيها حق،فقال النبي صلى الله عليه وسلم للحضرمي ألك بينة؟قال:لا،قال:فلك يمينه،قال:يا رسول الله إن الرجل فاجر لا يبالي على ما حلف،وليس يتورع عن شئ،قال :ليس لك منه إلا ذلك".2
القول الثاني:
جواز معاقبة المتهم السجين بضرب وسجن وما يعادلهما،وهو في حق المتهم المعروف بالفسق والفجور وسوء السيرة،وقد قال به جماعة من متأخري المذاهب الأربعة :
المالكية:
جاء في تبصرة الحكام:"هذا القسم لا بد أن يكشفوا ويستقصى عليهم بقدر تهمتهم وشهرتهم بذلك،وربما كان بالضرب وبالحبس دون الضرب،على قدر ما اشتهر عنهم".3
وعن أشهب قال:"يمتحن بالسجن والأدب،ويجلد بالسوط مجردا".4
الحنفية:
جاء في المبسوط:"...إلا شئ روي عن الحسن بن زياد رضي الله عنه،أن بعض الأمراء بعث إليه وسأله عن ضرب السارق ليقر فقال:ما لم يقتطع اللحم،أو لا يبين العظم،ثم ندم على مقالته،وجاء بنفسه إلى مجلس الأمير ليمنعه من ذلك فوجده قد ضربه حتى اعترف وجاء بالمال،فلما رأى المال موضوعا بين يدي الأميرقال:ما رأيت ظلما أشبه بالحق من هذا".5
الحنابلة:
ذكر ابن القيم بأنه يجوز ضرب المتهم المعروف بالبر والفجور،ونقل عن شيخه ابن تيمية قوله:"ما علمت أحدا من الأئمة يقول إن المدعى عليه في جميع هذه الدعاوي يحلف ويرسل بلا حبس ولا غيره،فليس هذا على إطلاقه مذهبا لأحد من الأئمة الأربعة ولا غيرهم من الأئمة،ومن زعم هذا-على إطلاقه وعمومه-هو الشرع فقد غلط غلطا فاحشا،مخالفا لرسول الله صلى الله عليه وسلم ولإجماع الأمة،وبمثل هذا الغلط الفاحش تجرأ الولاة على مخالفة الشرع،وتوهموا أن الشرع لا يقوم سياسة العالم ومصلحة الأمة،وتعدوا حدود الله".6
الشافعية:
ذكر الماوردي بأن للأمير مع قوة التهمة،أن يضرب المتهم ضرب التعزير لا ضرب الحد ليأخذه بالصدق على حاله فيما اتهم به،وقال:تعرف قوة التهمة من شواهد الحال وأوصاف المتهوم،فإذا كانت التهمة بزنى وكان المتهوم متصنعا للنساء،ذا فكاهة وخلابة قويت التهمة،وإن كانت التهمة بسرقة وكان في بدن المتهم آثار ضرب أو كان معه حين أخذ منقب،قويت التهمة.7
وهو قول لا يستند على دليل من كتاب أو سنة او إجماع.
وقد اعتمد القائلون بجواز ضرب المتهم السجين ،على أدلة منها:
-تعذيب الزبير لعم حيي بن أخطب حتى يدل على المال المسروق،وقد ذكرت هذه القصة في الحلقة الثانية مع التعليق عليها.
-في قصة أمنا عائشة رضي الله عنها في قضية الإفك،وطعنها في عرضها،إذ استشار الرسول عليه السلام عليا بن أبي طالب رضي الله عنه،فأشار عليه أن يسأل الجارية بريرة فإنها ستصدقه،فدعاها ليسألها فقام علي بن أبي طالب فضربها ضربا شديدا،وجعل يقول:"اصدقي رسول صلى الله عليه وسلم" فتقول:"والله لا أعلم إلا خيرا،وما كنت أعيب على عائشة إلا أني كنت أعجن العجين فآمرها أن تحفظه فتنام عنه ،فتأتي الشاة فتأكله".8
إلا أنه وبالاطلاع على رواية البخاري لا نجد ذكرا لضرب الجارية من طرف علي بن أبي طالب،وإنما ورد فيها:"فانتهرها بعض أصحابه".
وقد حاول العالم المغربي الإمام السهيلي ،التوفيق بين الروايتين،فذهب إلى القول بأنه إذا صح الضرب فإما أن يكون معناه أنه أغلظ لها بالقول وهددها بالضرب.
وإما أنها ضربت باعتبارها خادمة،والمرء له حق تأديب خادمه عند الحاجة إليه،أو استقصاء عن أمر كما في هذه الواقعة،ولا دليل على جواز الضرب لأن الرسول عليه السلام قد استفسر زينب بنت جحش ولم يضربها.9
-ضرب المتهم المشتهر بالفجور من السياسة الشرعية العادلة ،جاء في معين الحكام:"السياسة شرع مغلظ والسياسة نوعان:سياسة ظالمة فالشريعة تحرمها وسياسة عادلة تخرج الحق من الظالم،وتدفع كثيرا من المظالم وتردع أهل الفساد،وتوصل إلى المقاصد الشرعية للعباد فالشريعة توجب المصير إليها،والاعتماد على إظهار الحق عليها".10
وتقوم السياسة الشرعية على قواعد أهمها:
-تغير الأحوال والزمان
-المصالح المرسلة:وهي المصالح التي لم يشهد لها الشرع بالاعتبار أو الإلغاء.
إلا أن هذه القواعد لا يمكننا اعتبارها أمام النصوص الشرعية الموجبة لحرمة دم المسلم وعرضه وماله.
وسيقال فكيف يمكن الوصول إلى حقيقة الاتهام بدون ضرب أو تخويف،فأقول بأنه يمكن الاعتماد على أساليب أخرى أثناء التحقيق ومنها:
*التفريق بين الشهود
*اللجوء إلى أنواع الحيل
*النظر في القرائن
وغيرها من الأساليب التي تظهر الحق وتجليه.
وإذا كانت زمرة قليلة من الفقهاء قالت بالضرب ونحوه ،في حق المشتهر بالفجور والفسق والعائد باستمرار إلى الإجرام،فإنها لم تحرمه من حقوقه الدينية والخلقية،وحقوقه المالية والقضائية،والرعاية الاجتماعية والصحية،وغيرها مما سآتي على ذكره في هذه الحلقات.
في الوقت الذي كان السجين في الغرب يعيش أسوأ الظروف،ويفتقر إلى أدنى وسائل الراحة،في أماكن قذرة تفوح منهاا لروائح الكريهة،كما فضحت ذلك كتابات أواخر القرن الثامن عشر وأوائل القرن التاسع عشر،فظهرت الحركات الإصلاحية التي دعت إلى جعل السجون مؤسسات إصلاحية بدل أن تكون أماكن تعذيب ونزع لإنسانية الإنسان،حيث تمارس عليه أبشع أنواع التعذيب،ورغم ذلك فلا زالت العديد من السجون في شتى بقاع العالم ترسخ النزعة الإجرامية،رغم تعالي أصوات المنظمات الدولية لحقوق الإنسان مثل:منظمة العفو الدولية ولجان هيئة رصد حقوق الإنسان،التي كشفت عن مدى اتساع التعذيب وشموله لمناطق كبرى في العالم .11
الهوامش
1-المدونة الكبرى رواية سحنون عن عبد الرحمن بن القاسم،عن الإمام مالك 16/293
2-سنن الترمذي كتاب الأحكام،باب ما جاء في أن البينة على المدعي واليمين على المدعى عليه،رقم الحديث 1340.
3-تبصرة الحكام في أصول الأقضية ومناهج الأحكام لابن فرحون المالكي 2/157.
4-المصدر السابق 2/158.
5-المبسوط 24/70.
6-الطرق الحكمية في السياسة الشرعية لابن القيم ص 151.
7- الأحكام السلطانية 594 وما بعدها.
8- سيرة ابن هشام 4/266-فتح الباري لابن حجر العسقلاني 8/480.
9- الروض الأنف للسهيلي 4/24.
10-معين الحكام فيما يتردد بين الخصمين من الأحكام لعلاء الدين أبي الحسن الطرابلسي الحنفي ص 164.
11-الناجون من التعذيب للونه ياعكسون،وكنوذ سميث نيلسن ص 18.