عالم وكتاب الحلقة الأولى :عبد الله بن طلحة اليابوري
الدكتورة:صباح بلحيمر
تميز عصر الصحابة رضوان الله عليهم بالانقياد والتسليم لكل ما جاء في كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم،ولم يحدث بينهم تنازع في مسألة من مسائل الاعتقاد فسلم مجتمعهم من الانحرافات وشابه الصفاء في عقيدته وانقضى عصرهم،فظهرت الفتن التي أنتجت المذاهب السياسية والعقدية المختلفة،مثل الخوارج والشيعة والقدرية والمرجئة،والجهمية والمعتزلة التي خالفت أهل السنة والجماعة.
لكن الله عزوجل هيأ للعقيدة الإسلامية من يدافع عنها ويقارع حججها بحجج غيرها،وإثبات العقيدة إثباتا يعتمد على العقل والنقل،فكانت المدرسة الأشعرية بقيادة أبي الحسن الأشعري التي ضمت أقوى الشخصيات المؤثرة في توجيه الفكر الإسلامي،ومن هؤلاء شخصية مؤلفنا أبو بكر عبد الله بن طلحة اليابوري الأندلسي ،الذي أحببت أن أتحدث عنه في هذا الموضوع لأسباب أجملها في :
-قلة الدراسات العلمية الأندلسية في جانب العقيدة .
-إلقاء الضوء على شخصية هذا المؤلف المغمور الذي أسهم بتراثه في خدمة المدرسة الأشعرية الأندلسية.
رغم أنني واجهت عدة صعوبات تتمثل في:
-قلة المصادر التي ترجمت للمؤلف.
-كتاب المؤلف في العقيدة عبارة عن مخطوط مبتور الأول مما حال دون معرفة عنوانه.
-توجد منه نسخة فريدة ووحيدة ،مما لم يسعف على المقابلة الدقيقة.
حياته:
أقدم ترجمة له فيما وقفت عليه،نجدها عند ابن الأبار( ت658ه)في كتابه التكملة لكتاب الصلة ،وعنه نقل الذهبي(ت748ه)في اختصاره للتكملة وقد نقل التقي الفاسي(ت832ه)نص هذه الترجمة في كتابه"العقد الثمين في تاريخ البلد الأمين".
واضح إذن أن الترجمة وجدها التقي الفاسي بخط الذهبي في اختصاره لكتاب ابن الأبار التكملة،فالمعول إذن على ابن الأبار لذلك تعتبر ترجمته أصلا تدور حوله تراجم المؤلفين بعده،مما سيضطرني إلى التعويل عليه لكتابة ترجمته.
هو عبد الله بن محمد اليابوري الإشبيلي من أهل يابرة،والمكنى بأبي بكر وأبي محمد الفقيه الأصولي المفسر،أخذ عن جماعة من الشيوخ منهم أبو الوليد الباجي وعاصم بن أيوب،ثم رحل إلى المشرق واستوطن مدة بمصر ثم رحل إلى مكة وبها توفي رحمه الله سنة (517ه).
عطاؤه العلمي:
ذكر ابن الأبار أسماء مؤلفاته،وعنه نقل مترجموه هذه المؤلفات ولم أستطع الوصول إلى شئ منها.
وأسماء مؤلفاته كما وردت عند ابن الأبار:
-مجموعتان في الأصول والفقه،رد فيهما على ابن حزم،أولهما "سيف الإسلام على مذهب مالك"وثانيهما"المدخل"أي المدخل إلى هذا الكتاب،وذكر هذا الكتاب أيضا المقري في" أزهار الرياض"،كما ذكر له كتابا في التفسير وشرحا لصدر رسالة ابن أبي زيد القيرواني.
وقد أشار أبو جعفر اللبلي في فهرسته إلى بعض ما في رد عبد الله بن طلحة اليابوري على ابن حزم:"كان ابن حزم كثيرا ما يتقول على الأشعرية وعلى غيرهم،لقصور معرفته لعلومهم وكونه غير بصير بشئ من كلامهم لأنه إنما قرأ كتبهم وحده،على ما ذكر الإمام أبو محمد عبد الله بن طلحة في كتابه".
-مؤلف في العقيدة
-مختصر في العقيدة وهو موضوع دراستنا، وقد أشار إليه بقوله:"لأني جمعت كتابا مشتملا على جمل هذا العلم نذكر شبه المخالفين فيه والانفصال عنهم والرد عليهم بما أغنى عن ذكره في هذا المختصر"
كتابه:
هو مؤلف في العقيدة ما زال مخطوطا،توجد نسخة منه فريدة ووحيدة محفوظة في الخزانة العامة بالرباط وقد تم جلبها من خزانة تامكروت.
ورد اسم المؤلف في الورقة رقم 4،ولا يوجد داخل المخطوطة ولا خارجها اسم الناسخ،ويرجع تاريخ نسخها إلى سنة 540ه،وحالة المخطوطة جيدة عموما،غير أنها مبتورة الأول مما حال دون معرفة عنوانها.
محتوى الكتاب :
هو كتاب في العقيدة الأشعرية ،افتتحه بمقدمة بين فيها سبب تأليفه وهو عدول أهل زمانه عن سبيل الشرع،واستجابة لالتماس طالبين،متجنبا كل بسط أو إسهاب متوخيا الاختصار،كما لخص فيها المواضيع التي ناقشها في مؤلفه.
وقد قسمه إلى أبواب :
الباب الأول عنونه ب"هذا باب ما لا يلزم علمه ولا يسع أحدا جهله"
الباب الثاني عنونه ب"باب في النبوة والمعجزة وما ضارع ذلك"
الباب الثالث عنونه ب "باب يتضمن فصول الإجماع التي لا يسع خلافها"
الباب الرابع عنونه ب "باب في ذكر عيوب اليهود والنصارى والمجوس ثم ختمه بخاتمة.
ويتضح من خلال الكتاب بأن المؤلف أشعري في عقيدته ينحو منحى الأشعريين في صفات المولى عز وجل وفي رده على الفرق المبتدعة التي تحرف الكلم عن مواضعه وفي استخدامه لمنهجهم وينقل عن شيوخ هذه العقيدة مشارقة ومغاربة.
وعموما فأشعريته تتضح أكثر من خلال القضايا التي طرحها وناقشها مثل:
قضية الصفات: فالصفات عنده كما عند المتكلمين تنقسم إلى قسمين:
*صفات الذات
*وصفات الأفعال
وفي صفات الذات نهج منهج الأشاعرة مخالفا للمعتزلة ،إذ أثبت بأن صفات الذات قديمة أزلية وهي:الحياة/العلم/القدرة/الإرادة/السمع/البصر/الكلام
أما صفات الأفعال فهي عنده محدثة،لأنها تتعلق بالعالم وتدبيره وهو محدث،مثل صفة الإحسان/الإنعام/الخلق/الإحياء
وفي تأويل الصفات :تباين موقف المؤلف في هذه المسألة كغيره من الأشاعرة،فبالنسبة لصفة الوجه واليدين والعينين يثبت النص على ظاهره،ويوضح أن المراد باليد لا الجوارح ولا الأجسام.
فهو لم يتأول اليد بمعنى النعمة والقدرة وغير ذلك،فهو يقر ما أقر الشرع،وفيه رد على المعتزلة والجهمية الذين ينفون عن الله الوجه والعينين واليدين.
أما صفات المجئ والإتيان،والنزول والاستواء،فقد أول هذه الصفات لأن ظاهرها المتبادر إلى الذهن لا يليق بكماله سبحانه،فهو يعمد إلى التأويل الإجمالي دون تحديد المراد منها وهو مذهب متأخري الأشاعرة،وتأويله لهذه الصفات يكون إما بصرفها عن ظاهرها أو تقدير محذوف،فهو إذن وسط بين المشبهة المجسمة وبين المؤولة المعطلة.
-كلام الله عزوجل: الكلام الحقيقي عنده هو الكلام النفسي موافقا للأشاعرة،أما الحروف والكلمات والأصوات فهي دلالة عليه.
-الإيمان والفسق: صح عنده-كباقي الأشاعرة-اجتماع الإيمان والفسق فهو مومن بإيمانه،وفاسق بفسقه الذي ليس ضد الإيمان.
-في زيادة الإيمان ونقصانه:كغيره من الأشاعرة لا يتصور هذا الأمر إلا في القول والعمل دون التصديق الذي لا يقبل زيادة ولا نقصان.
-قياس الغائب على الشاهد:يرفض الاعتماد عليه في أفعال الله عز وجل ويعتمد عليه إذا كان الجامع بين الشاهد والغائب العلة أو الدليل،لأن الأخذ بهذه النظرية على إطلاقها يلزم عنه القول باستحالة وجود حي عالم قادر لنفسه،لأنهم لم يجدوا في الشاهد إلا إنسانا من نطفة ولا طائر إلا من بيضة ولا بيضة إلا من طائر.
-في الاجتهاد:لم يخرج عن شروط الأشعريين في المجتهد وهي:
*أن يكون ممكنا على النظر بأدلة العقول حتى يصل إلى أن يضع الأدلة موضعها.
*ويعلم طرق الإيجاب من المواضعة في اللغة والشعر
*ويكون عالما بأصول الديانات من الاعتقادات وأصول الفقه
*عالما بأحكام الخطاب من الأوامر والنواهي
*عالما بالكتاب والسنة
*وبأقوال الفقهاء من الصحابة والتابعين ومن بعدهم
*عالما بالنحو واللغة
*أن يكون مأمونا في حفظه، موثوقا في فضله
أما باقي الأمور الخبرية مثل: الجن والحوض والميزان وعذاب القبر...فقد ذهب إلى وجوب الإيمان بها والإقرار بصحتها.
منهجه في كتابه:
وأقصد به القواعد التي سار عليها في تكوين آرائه الكلامية وطريقته في الاستدلال عليها.
ومن خلا دراستي للكتاب تبين لي بأن المؤلف ينهج في دراساته الكلامية منهجا يعتمد على الدليل العقلي والنظر العقلي.
الدليل النقلي:
ويتلخص في القرآن الكريم مثل استشهاده بقوله سبحانه:"وجوه يومئذ ناضرة إلى ربها ناظرة"في قضية رؤية الله عز وجل يوم القيامة،دون تأويل أو تجسيم أو تكييف.
*الحديث النبوي الشريف :مثل استشهاده بحديث الرسول عليه السلام:"إن الملائكة تتعاقب على العبد في صلاة الفجر وصلاة العصر"في حفظة الله عز وجل.
إجماع الأمة: مثل استشهاده على إمامة أبي بكر الصديق بالكتاب والسنة وإجماع الأمة فقال:"من الإجماع :اتفاقهم على قولهم يا خليفة رسول الله وغير ذلك من تتبعه".
الدليل العقلي:وأذكر منه:
*وضعه للمقدمات التي تنبني عليها الأدلة:مثل قوله:"ولا يصح أن يكون المخلوق خالقا"،لينتقل إلى الاستدلال على ذلك بأنه لو لم يكن كذلك لكان محدثا،ولو كان محدثا لاحتاج إلى محدث وهكذا.
*ترتيبه لهذه المقدمات بعضها بعد بعض:فقد أثبت أولا حدوث العالم ووجود الصانع الذي لا يشبه المحدثات وواحد لا شريك له،ولم يضع العالم لغرض أو غاية،مع توضيحه لصفات الله عز وجل وأفعاله.
*السبر والتقسيم: وهو استدلال يعتمد على ترديد الأمر بين احتمالين لا ثالث لهما في نظر المستدل فإذا بطل أحدهما –وهو ما يدعيه المخالف-ثبتت دعوى المستدل بدون دليل آخر مثل قوله:"ولا بد أن يكون حيا لأنه لو لم يكن حيا لكان ميتا،والميت لا يصح أن يفعل ولو صح ذلك لصح أن يفعل كل ما يشاهده من الموات،والأموات والأفعال وهذا محال".
* اعتماده على برهان التمانع:ويقوم هذا الدليل على افتراضه بين الأرباب لو وجدوا،أي يكون بعضهم مانعا لبعض من تنفيذ أوامره مثل قوله:"ولا يصح أن يكون الخالق إلا واحدا،لأنه لو كان له ثانيا فما فوقه لم يخل أن يكونا قادرين عالمين إلى غير ذلك من صفات الألوهية،او أحدهما كذلك والآاخر بضدها من العجز والجهل وغيرهما أو كلاهما عجزة جهال".
إلى غير ذلك من الأدلة العقلية مثل: قياس الغائب على الشاهد، والاعتماد على مسلمات الخصوم،والاستدلال بالشبيه والنظير .
وإضافة إلى الدليلين النقلي والعقلي نجد المؤلف يستشهد بالشعر وبكلام العرب في مسألة كلام الله عز وجل فقال:
إن الكلام من الفؤاد وإنما جعل اللسان على الفؤاد دليلا
ولقول العرب:"لك في نفسي كلام ما أبثه لغيرك ولا أذكره لسواك"
أسلوبه:
يتميز أسلوب اليابوري بالسهولة والبساطة،وقد ذكر ذلك في مقدمته حين أعلن عن رغبته في جمع مختصر فيما لا يسع أحد جهله،ويلزم كل الناس علمه في العقيدة،لما رأى من أهل زمانه من العدول عن سبيل الشرع،متجنبا كل بسط أو إسهاب متوخيا الاختصار والعبارات السهلة القريبة.
وإلى جانب تميزه بالبساطة والسهولة فهو يتسم:
أ-بالدقة في التعبير ومثاله:قوله"وكلام الله تعالى ليس بمخلوق، لأنه لو كان مخلوقا لم يخل من أن يخلقه الله في نفسه أو في غيره أو لا في نفسه ولا في غيره"
ب-اصطناع المؤلف لأسلوب الحوار من أجل استدراج السامع إلى فهم المراد من كلامه، ومثاله:"فإن قيل لك أو سولت لك نفسك ما الله؟فإنه إن أراد بسؤاله ما هو؟أي ما جنسه؟فليس له جنس ولا مثل لما وصفنا".
"فإن قيل لك:أين هو؟فقل:أين سؤال عن مكان،ولم يكن الله ولا هو كائن ولا يكون في مكان غير أننا نقول:هو على العرش،لا على معنى كون الجسم على الجسم بملاصقة أو مجاورة".
ت-اهتمام المؤلف بتوضيح الكلمات،فيورد للفظة الواحدة مترادفات يدعمها بالشعر أو بكلام العرب أو بآيات وأحاديث،مما يدل على تمكنه من اللغة ومثاله:"فقد تقدم بلا غاية قيامه بنفسه،وبقاؤه كذلك إلى غير غاية وهو حقيقة الكلام،أعني القائم في النفس لقوله تعالى:"ويقولون في أنفسهم"ولقول العرب:"لك في نفسي كلام ما أبثه لغيرك ولا أذكره لسواك"،ولقول الشاعر:
إن الكلام من الفؤاد وإنما جعل اللسان على الفؤاد دليلا
فاللسان والإشارة والرمز والكتابة، كلها دلائل على الكلام".
ث-تميز أسلوبه بالهدوء والرصانة، والخلو من الكلمات النابية، والصفات الجارحة في حق المخالفين ومثاله:"فيقال لليهود والنصارى:بما عرفتم نبوة موسى وعيسى؟فما أتوا به فيهما ،آتيناهم في محمد بمثله من معجزاته ونقلته،فإن كذبوه كذبوا رسلهم وإن صدقوهم صدقوه،ولا فصل بينهم".
لأختم بالقول في نهاية الموضوع بأن الكتاب يحتاج إلى تناول المحققين له بالدراسة والتحقيق،للتعريف بهذه الشخصية المغمورة وبكتابه المهم في العقيدة الأشعرية.