طائر الفردوس
بعد تخرجي من الثانوية وحتى لا أغادر الطائف وحتى لا تبقى قلقة على ابنها البكر، التحقت بالعمل في إدارة حكومية يرأسها احد أقارب والدتي كموظف على بند التشغيل، حتى تتم موافقة الوزارة بالرياض على التعيين الرسمي.
غير إن أمي لم تفرح طويلا ببقائي إذ توفت اثر وعكة صحية عارضة، معها شعرت أن إخوتي من أمي ووالدهم يرون بقائي يزعجهم، بينما المنزل الذي نقيم فيه املكه معها بالشراكة من ارث حصلنا عليه من أسرة والدي، الذي طلق أمي وأنا في الرابعة.
عرف مدير الإدارة بمستجدات حياتي فسرع طلب تثبيتي على وظيفة استقال صاحبها، مطالبها تتفق مع مؤهلي وخبرتي العملية، وأكد علي أن أقاوم العواصف والرياح الباردة، غير انه بعد عام من صدور قرار تثبيتي كموظف رسمي جاء تقاعده وتعين مدير جديد للإدارة.
وبما إن المدير الجديد من خارج مدينة الطائف، فقد وجد في المساعد الذي يثق فيه لترتيب إقامته، أقام في الفندق ثلاثة أشهر حتى تمكن من استئجار فيلا في حي الشرقية، تابعت تأثيثها وطلب مني استقبال زوجته وأولاده الثلاثة بالمطار لانشغاله بمناسبة رسمية يرعاها أمير الطائف ويشرفها الوزير.
في التاسعة ليلا كنت انتظر بالمطار، وقد تأكدت من لوحة الرحلات أن رحلة العائلة في موعدها، لمحت الزوجة وقد تلفعت بالسواد وبرفقتها ولدين وبنت تتفاوت أعمارهم بين العاشرة والرابعة، تجاوزت ارتباكي رفعت صوتي مناديا باسم المدير لتركض نحوي الطفلة ثم الولدين واقتربت المرأة.
لم يكن هنا عفش زائد وفي العربة كانت المرأة تجلس خلفي، كلما حدقت في المرآة لسلامة الطريق كنت أجدها أمامي، طرح اكبر الولدين بعض الأسئلة لمعرفة معالم الطريق، بينما الثاني كان صامتا والطفلة ذات السنوات الست الجالسة بجوار أمها تحدق في كلما تكلمت وقد فتر ثغرها عن ابتسامة صغيرة.
فتحت باب المدخل ثم فتحت الباب الداخلي للفلا وعدت للوقوف بجوار السيارة، ترجل الجميع ووضعت في الفناء العفش وأغلقت باب الفناء، وأنا أهم بالتحرك فتح الباب كان الولد الأكبر تريثت وفتحت زجاج باب السيارة الجانبي، قال بصوت خافت ( جيعانين نبغى عشاء ) طلبت منه مرافقتي، دخل مستأذنا وتركته يختار المناسب.
اتفقت مع إخوتي من أمي ووالدهم على بيع المنزل، واشعرنا احد مكاتب العقار بذلك وبعد عشرة أيام طلب مني صاحب المكتب مقابلته ووجدت زوج أمي وعرفت انه يرغب في شراء نصيبي بشرط أن أتنازل عن ارثي في نصيب والدتي، وبعد جدال لمعرفة المبلغ الذي وصل إليه ثمن المنزل، طلب مني صاحب المكتب التفكير.
يبدو انه يجب علي إزالة معالم الحزن ( الهوة السحيقة الممتدة حتى النجوم ) الذي تلبسني بعد رحيل أمي، كيف لي أن الغي هذه الحالة التي تشاركني كل خطوة منذ خمس سنوات، مكبلة خطواتي داخل سور الطائف متخيلا إن هناك حقول ألغام تترصد خطوات الرحيل.
وجاء اتصال صاحب المكتب كان حديثه ودودا وصادق كان يعرف حسب خبرته في السوق العقارية، أن المبلغ الذي سوف أخذه بعد بيع المنزل يمكنني من شراء شقة بأحد المباني الحديثة، إضافة إلى أن موافقتي تعد صلة رحم وصدقة؛ يسعد أمي في قبرها وقد وفرت الأمان لأخوتي.
هل كان الموت جزءا من متاعنا، تأملت هذا وأنا اجلس مع الأصدقاء في المقهى وقد تخيلته يجلس مع أمي في الزاوية المقابلة من المقهى، كانت أمي تتحدث وكنت اسمعها تقول شارحة ( سعادتك تجعل الفراش طريا . حيث تأكل الدببة البرية من أيدي الصغار ) وكان بين وقت وأخر يلتفت محدقا في، ولما نهضنا قررت الاقتراب منها لأكتشف أن الزاوية فارغة وان خيالي يساعدني على اجتياز الطريق.
رايته في متاهة أحلام الفردوس، طلب مني المدير وهو قد اعتاد تكليفي ببعض المهام الخاصة إحضار زوجته من حفل زواج تحضره، كانت الثالثة صباحا تفتح باب السيارة لتجلس في المقعد المجاور، رفعت غطاء وجهها وسحبت وهي تتخلص من العباءة مناديل ورقية أخذت تزيل أصباغ وجهها وتمسح عرق صدرها.
لمحتها تتخلى عن جزمتها ثم رفعت طرف فستانها حتى ركبتيها، لتتمكن من التخلص من الشراب الحريري اللدن، ولما سكنت قالت بصوت خافت ( أنا عطشى ) غيرت طريقي متجها إلى الهدى قاصدا محطة بترول اعرف إن المقهى والمطعم وبقالتها تستمر في السهر، وقمت بشراء قنينة ماء وقنينتي عصير ليمون، شربت جزء من قنينة الماء وسكبت الباقي على صدرها.
غادرت السيارة حافية القدمين فتحت باب الفناء ودخلت تاركة العباءة وحقيبة يدها، ترجلت من السيارة حاملا الحقيبة والعباءة، كانت تنتظرني على باب الفيلا لوحت بكفها حتى أغلق باب الفناء وتبعتها في غرفتها طلبت مني مساعدتها على التخلص من فستانها.
ارتدت ثوب نوم شفاف وجلست على مقعد التسريحة، طلبت مني ( تهميز كتفيها ) التقت نظراتنا في المرآة أغمضت عينيها بعض الوقت، ولما فتحتها سحبتني وأجلستني على فخذيها وأخذت تلعق عنقي ثم زرعت قبلة طويلة على فمي.
أخيرا وجدت بصيص نور في قناع روحي المتعب وامتدت يد الله شاقة صدري لتغسل قلبي من غضبه، شعرت بحرارة جسدها العالم كله هنا حيث أنا الآن تتجمع قطعي المحترقة وعرفت إن الروح عائدة ( كنت بحاجة إلى محيط ودود ) وأنا اصعد وحولي نسمة ريح مبللة بقطرات مطر.
في العاشرة صباحا تنبهت تذكرت العمل وتأخري تجاوزت القلق والخوف الذين حطا فجأة في أعماقي، وجدتها في صالة الجلوس أمسكت بكفي وهي تهمس ( الفطور زاهب ) جلست قبالتي صمتها يشعرني انه لم يحدث شيء وعند الباب ( اكتشفت أنها الكمال الذي ابحث عنه ) ودعتني بضغطة خفيفة على كفي.
تتعمق الوحدة وان تفرقت السحب السوداء، الوساوس تمزق نفسها ببطء تذوب في لحظات اليقين، مواصلا الطيران عاليا مع الحلم والأوهام البعيدة انتقل من شجرة إلى شجرة تجذبني الغصون المزهرة ( يا أماه ابعثي لي الحب ) حتى أتجاوز الرطوبة القاسية التي تحيط بي.
في المقهى وقبل أن يصل الأصدقاء انطلقت فكرة التمرد على ذاتي، جاء النادل يشع بياضا وهو يقدم طلباتي، حدق في وقال ( الليلة لن يأتي احد ) وغادر لم ينتظر استفهامي، حولي هبوب مطر خفيف ارتفع معه حفيف أشجار المكان سمعتها تقول ( اطلب كأس ماء ) كانت أمي تجلس بالكرسي الملاصق لمقعدي وكان النادل المشع بياضا يناولها الكأس.
جسدها الغض بدا أكثر رشاقة في ثوبها المخملي الأسود، غدت سيدة مكتملة واثقة من تصرفها حريصة على احترام موقفها ختمت حديثها ( ولدي لك مطلق الحرية بالرحيل سوف أجدك أينما تستقر ) ونهضت شاركها النادل المشع بياضا السير، حاولت اللحاق بهم غير أن قدوم اثنين من الأصدقاء أعاقني.
طلب مني مدير الإدارة الحضور لمكتبه، لما دخلت أمر مدير مكتبه إغلاق الباب، كنت واقفا حدق في ثم سحب ورقة من ملف أمامه على المكتب، مدها لي وطلب مني الجلوس لقرأتها قال ( هذه خيارات مدن أخرى للنقل ) قلت ( مبروك ) قال ( اخترت المكان المناسب بشرط أن تكون معي ) أحسست بألم لاذع وارتعاشه قوية تهز جسدي.&